الفن التشكيلي بين التأثر والنسخ

بعد ظهور المدرسة الإنطباعيّة في القرن التاسع عشر، توالى ظهور مدارس الفنّ الحديث، مستوحيةً ومستلهمةً، مما قبلها. فظهرت التنقيطيّة مع جورج سورا George Seurat، وأخذت من دراسات الإنطباعيين حول تجزئة الألوان، وإنعكاسات الضوء عليها. أمّا التكعيبيّة، فقد استندت في تصويرها الطبيعة الهندسيّة للأشياء، إلى تجارب بول سيزان Paul Cezanne، الفنيّة. كما أنّ الفنان الهولندي فنسينت فان غوغ Vincent Van Gogh، يعد الممهد الأوّل للمدرسة التعبيريّة، وذلك من خلال ألوانه التي عبّرت عن حالته البائسة، وضربات ريشته الحادّة، التي يتضّح من خلالها توتر الفنان. هكذا استلهمت المدارس الفنيّة من بعضها البعض، وأكملت دراسة ما توصّل إليه الروّاد الذين سبقوها. فإن كان أشهر فناني القرن المنصرم، قد إستلهموا وتأثروا ممن سبقهم، ما الضرر بأن يتأثر فنان اليوم بأعمال غيره؟
لا بدّ من الإشارة إلى أن هناك فرقاً بين التأثر والنسخ. أن تتأثر يعني أن تستلهم، أن تُعجب بتقنيّة أو ألوان لوحة ما لفنان معين، مثلاً، فتعيد إستخدامهم بلوحتك، وتترجمهم بأسلوب وكيان جديدين، يعبران عن شخصيتك كفنان.
أما أن تنسخ، فيعني أن تعيد رسم لوحة طبق الأصل، أو أن تعجب بفكرة عمل فنّي، فتعيد إعدادها كما هي، دون أن تضيف أي جديد. فلا تكون فناناً، بل حرفيّاً ينسخ ما يراه. إذ إنَّ الفنان قد يستلهم من الآخرين، ومع إستلهامه يقدّم الجديد لعالم الفن.
النقد الفني، يوسّع الإشكاليات أمام الفنانين الصاعدين:
يواجه الفنانون التشكيليون في يومنا هذا نقداً لاذعاً، من قبل نقّاد الفن. حين يتضح تأثرهم بفنان آخر. وكأنّه يترتب عليهم أن يستلهموا عملاً فنيّاً من العدم! منذ فترة، قامت فنانة لبنانيّة بافتتاح معرضٍ، لمجموعة لوحاتها الجديدة، واتضح في المجموعة التي قدمتها، مهارة الفنانة بالرّسم والتلوين، وقدرتها على التعامل مع أدّق التفاصيل، وما يزيد من قيمة هذه اللّوحات هو تنوّع الخامات، والخطوط فيها وإبراز التضاد اللّوني. فضلاً على أنّ الفنانة تقدمت بطرح فكرة جديدة تحاكي الفضاء العام، والتبعات التي يشهدها. وقدمتها بأسلوب ذات خصوصية عالية.

وإذ بإحدى ناقدات الفن تهاجم الفنانة بمقالة كتبتها، بسبب تأثرها بالفنان اللّبناني الراحل أمين الباشا. من هنا يأتي السؤال، ما الضرر إن تأثرت فنانة تتضح براعتها بفنان سبقها؟ أمين الباشا نفسه قد تأثر بزخارف وألوان الوحشيين أحياناً، وبأعمال الفنان الألماني بول كلي Paul Klee، أحياناً أخرى. لما علينا أن نرى تأثر الفنانة بأمين الباشا تقليداً لأسلوبه بدلاً من أن نراه تتوجياً للفنان، من خلال إستكمال مسيرته في التعامل مع المساحات المجزئة؟
إنّ مدارس الفن الحديث والمعاصر، لم تترك لنا أيّة أساليب جديدة لنبتكرها، فلم يتبقَّ للفنان سوى أن يجرّب ويختبر جميع تلك المدارس، حتّى يجد المدرسة الفنيّة الأقرب إلى شخصيّته الفنيّة، فيستلهم منها أعمالاً يطرح من خلالها أفكاراً وتقنيات جديدة.
في السياق عينه، يمكن القول، إنه إذا كانت الفنون القديمة نفسها قد تأثرت واستلهمت من بعضها البعض، هذه الفنون نفسها تدرّس في أكاديميات الفنون الجميلة اليوم، فلما تدرّس إن كان الفنان سيهاجم بعد تخرّجه، حين يتأثر بفنان آخر؟ وكيف للفنان التشكيلي أن يبتكر أعمالاً جديدة إذا لم يستند لما كان من قبله؟
«لا شيء يأتي من العدم»، من الطبيعي أنّ يتأثر الفنان بما هو قبله، وبالأقرب إلى شخصيّته، وينطلق من تأثره هذا في رحلة البحث عما هو جديد، مستنداً إلى القديم. وخلال رحلته هذه، يقوم بتشكيل وإكتشاف هويته الفنيّة الجديدة التي تميّزه عن غيره من الفنانين.