الفن المفاهيمي خارج ملاذ المعارض اللبنانية!

ماذا لو كان العمل الفني، الذي تنظر إليه، ليس عبارة عن لوحة من الرسم والألوان على القماش؟ أو ليس منحوتة، لجسد «فينوس» العاري، المصنوع من الجص؟ ماذا لو كان العمل الفني، عبارة عن كرسي، وصورة له، ونسخة ورقية من كلمة «كرسي» في القاموس؟ «كرسي وثلاثة كراسٍ»، للفنان الأميركي جوزيف كوسوث (Joseph Kosut) عُرِض لأوّل مرة في مدينة نيويورك عام 1965. كوسوث لم يصنع الكرسي، أو يلتقط له الصورة، أو يكتب التعريف عنه. بل، اختارها وجمع كل هذه العناصر معاً. فهل هذا يعد نوعاً فنياً محدداً؟ وأي تمثيل للكرسي هو الأكثر «دقة»؟ هذه الأسئلة المفتوحة، هي بالضبط ما أراد كوسوث أن يفكر به المتلقي، عندما قال إن «الفن يصنع معنى». من خلال جمع هذه التمثيلات الثلاث، يحوّل كوسوث كرسياً خشبياً بسيطاً إلى موضوع نقاش، ومنصّة لاستكشاف معانٍ جديدة، ليندرج عمل كوسوث تحت خانة الفن المفاهيمي أو ما يُعرف بالـ (Conceptual Art).
الفن المفاهيمي: رسائل، وأفكار، ومفاهيم
في سيتينيات القرن الماضي، ظهرت حركة فنيّة، تقدّر الأفكار على المكونات الشكليّة، والمرئيّة للأعمال الفنيّة، تحت اسم المفاهيمية. إتخذت هذه الأعمال أشكالاً لا تُعد ولا تُحصى، مثل العروض والأحداث الزائلة. ومنذ منتصف الستينيات حتى منتصف السبعينيات، أنتج فنانو الفن المفاهيمي أعمالاً وكتابات، رفضت تماماً الأفكار القياسية للفن. إذاً، يمكن القول إن المفهوم وراء العمل، تفوق أهمية الكائن الفني النهائي، ولا تهتم بالتمثيل، ولا بالأشكال التعبيرية الكلاسيكية، بل تهتم بالـ «الفكرة» فقط، لتكون الهدف، من العمل الفني ككل.

مع أنّ الحركة المفاهيمية ظهرت في السيتينيات، غالباً ما يُنظَر إلى مارسيل دوشامب (Marcel Duchamp ) على أنّه أب الفن المفاهيمي. وتُعدّ «النافورة» التي عرضها دوشامب عام 1917، أوّل عمل فني مفاهيمي. هذه النافورة كانت مبولة خزفية جاهزة الصنع تحمل توقيع «آر مات»؟ (R.Mutt). وعند شرح دوشامب للغرض من تمثاله الجاهز، قال إنها «أشياء يومية ترقى إلى كرامة عمل فني، بفعل اختيار الفنان». أي أنّ الفنان هو الذي يعطي قيمة فنية لأي غرض يختاره. وعليه، يمكن اعتبار الفن في الأساس «مفهوماً» وليس « شيئاً»، هذا ما يجعل من «النافورة»، القطعة الفنية الأكثر جاذبية وتحدّياً من الناحية الفكرية في القرن العشرين.

على الرغم من أنَّ الحركة المفاهيمية امتدت من السيتينيات إلى السبعينيات، إلا أنّنا ما زلنا نرى الكثير من الأعمال المفاهيميّة في جميع أنحاء العالم، بعضها يحمل مفاهيم ويروّج لأفكار مُبتَكِر العمل الفني، وقد تكون هذه الأفكار، سياسية، بيئية، جندرية، وغيرها. بينما أعمالٌ أخرى لا تحمل أي فكرة أو غاية من ورائها، وهي فقط تضليل وتلاعب بالجمهور الذي لا يزال يفتقد الحس الفني والثقافة الفنية.
التجارب المفاهيمية في لبنان: محاولات فرديةّ
على نطاق لبنان، فإن الأعمال الفنية التي تأخذ الطابع المفاهيمي، لا يزال إنتاجها محدوداً إلى حد ما. ولا يمكننا أن نلقي السبب في هذا على عاتق الفنانين اللبنانيين، وإنّما على عاتق أصحاب المعارض الفنية، الذين ما زالوا يفضّلون عرض الأعمال الفنية التي تتخذ شكل لوحة أو منحوتة، لأنّ عرضها وبيعها ما يزالان سهلاً بالنسبة لهم. فليس جميع الأعمال الفنية المفاهيمية يمكن بيعها، لأنّها غالباً ما تكون مرتبطة بالزمان والمكان المعروضة فيهما. وغالباً ما نرى الأعمال الفنية المفاهيمية في لبنان، خارج المعارض الفنية أو الغاليريات، ومعروضة على حساب الفنان الخاص، أو على حساب جمعيات تدعم الفنانين وابتكاراتهم البصرية.

التعشيش أو الـ (Nesting)، هو عمل فني مفاهيمي، للفنان البصري اللبناني، رينوز. تمت إقامته العام الماضي، في إحدى المباني المُدمَّرة، في منطقة «الجمّيزة» في بيروت. وذلك ضمن فعالية (Ruins Squat Exhibition). اشترك في هذه الفعالية أكثر من فنان، استخدموا الردم والآثار الموجودة داخل المباني المدمرة، ليعيدوا تأهيلها، فتصبح عملاً فنياً.
اختار رينوز تقديم عمل فني مفاهيمي، «يطرح فشَلَ الرؤية المشتركة والمسؤولية الجماعية، من التأكّد أنّ البيئة التي نختار العيش فيها، آمنة ومأمونة، قبل نظر الأفراد إلى الأمن الشخصي، إذ لا يمكننا أن نحظى بأمان بدون الآخر»، إنّ «العشّ الذي يقدّمه في عمله الفني يرمز إلى الرغبة الطبيعية، داخل كل واحد منا، للبحث عن ملاذ آمن لخلق بيئة وقائية، نشعر فيها بالأمان وتمكِّنُنا من الرعاية والتهيئة. هذا العشّ يمثّل منزلنا».
علاوة على ذلك، وفي زمن كثر فيه التكرار والابتذال وغُيَّبَ الابتكار، قد يشكّل الفن المفاهيمي وسيلة تمنعنا من الملل فنياً. فالفن المفاهيمي دائماُ ما يحمل فكرة معه، والفكرة لا تموت، بل هي دائماً قابلة للتطوّر مع تطوّر الحياة اليومية، والأحداث، والزمن. ولهذا، على المعارض الفنية في لبنان مسؤولية بأن تهتم بعرض أعمال فنية مفاهيمية وتدعمها أكثر. وذلك بهدف منع الملل الفني، ولكي يكون الفنّ دائماً وسيلة للفنان للتعبير عن أفكاره مهما كانت جريئة ومتمردة.