الفيلم الوثائقي «قفزة أخرى»: مصير غزة، محكوماً لا محتوماً

يلخص الفيلم الوثائقي «قفزة أخرى» (83.د. 2019. إخراج: إيمانويل جيروسا)، صمود الغزّاويين تحديداً، والفلسطينيين جميعاً، بوجه آلة القمع والقتل والتخويف التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، وما يتبعها من مخلّفات على مدار سنوات. مع بدء المشهد الافتتاحي لشبان وأطفال يركضون في أزقة خان يونس، في قطاع غزة، وتحت سماء لا تتوقف فيها أصوات طيران الاحتلال الإسرائيلي، وبين كتل إسمنتية صمّاء، يتبيّن حجم المأساة التي يعيشها سكان القطاع، نتيجة أسرهم داخل جدار فصل عنصري. مما يضع المشاهد للفيلم الوثائقي في حالة من الذهول أمام طبيعة البيئة المعاشة، والخوف الاستبداد الذين يحكمان القطاع.
حبكة الفيلم الوثائقي «قفزة أخرى»: لجوء في الوطن، ولجوء في الشتات
الفيلم الوثائقي «قفزة أخرى»، يحكي عن مجموعة شبّان من غزة يعيشون في خان يونس، يمارسون رياضة الوثب، أو كما تسمى عالميًا «باركور»، وهي مجموعة حركات من القفز، فوق الحواجز و الموانع بأكبر قدر من السرعة والسلاسة، مع الهبوط بهدوء في نقطة محددة. «جهاد وعبدالله، رياضيان فلسطينيان نشآ معاً في قطاع غزة. في عام 2005، أسّسا فريق باركور غزة لتقديم بديل للأجيال الشابة بدلاً من الحرب. بعد نجاحه في الفرار، يعيش عبدالله اليوم في منزل مهجور في إيطاليا كلاجئ سياسي. ليس لديه وظيفة ويصعب عليه توفير كلفة عيشه. جهاد لا يزال محاصراً في القطاع. يعتني بوالديه المريضين ويقود الفريق بمفرده وسط الوضع السياسي الصعب في غزة. لم يتحدث الرّجلان مع بعضهما منذ سنوات، فجهاد لم يغفر لعبدالله أبدًا تركه إيّاه وحده. على الرغم من وضعه الصعب، في محاولة يائسة لتحقيق حلمه، يقرر عبدالله المشاركة في مسابقة وثابة دولية. يدرك جهاد أن لا مستقبل له في القطاع، لذا يقرر التقدم بطلب للحصول على تأشيرة محاولاً تغيير مصيره. خياراتهما قد شتتت صداقتهما ومع ذلك، تعكس مصائرهما بعضها. الآن أكثر من أي وقت مضى، يحتاج الرّجلان لمعرفة ما إذا كان هناك سبيل إلى الحرية، لمن وُلد مثلهما في السجن.«
شوارع وشواطئ خان يونس: الحرية مغروسة فيهما
تجول كاميرا المخرج الإيطالي بين حياة الشابين. يقارب الفيلم مصيرهما وأحلامهما، ارتباطاً بالمعاناة التي يعيشها الفلسطيني داخل غزة وخارجها. رغم التفكك الذي يعاني منه الفريق بعد مغادرة مؤسسه، يستمر جهاد في تدريب الأطفال والشبان في غزة، لكن حالهم يختلف عن الأندية العالمية. لأن باركور غزة يتّخذ أسطح المباني المهدمة التي دمّرها قصف الاحتلال الإسرائيلي مكاناً بديلاً، وعلى عجلات سيارات مغروسة في رمال شاطئ غزة الساحر، كإنغراس جذور الفلسطنيين في أرضهم.

يجمع جهاد الفريق كل يوم بعد التدريب، ويشحذ الهمم بعبارات إصرار وصمود راسخة كالقضية الفلسطينية التي تستمر من جيلٍ إلى آخر ومُحال أن تنتهي. “غزة باركور لازم تستمر، جيل يُسلّم جيل. طريق ماشي متل السهم، مستحيل يوقف من جيل لجيل”.
يلتقط المخرج قفزات فريق باركور غزة بزوايا كاميرا مختلفة، يقفزون فوق الدمار الذي خلّفه الاحتلال الإسرائيلي، يخفق القلب مع كل قفزة لاعب، تشعر وكأنهم يقفزون لنيل الحرية التي سلبت منهم. بين مشاهد خان يونس وفلورنسا، يصور المخرج معاناة حياة الفلسطنيين، مُظهراً الصعاب التي يعانيها جهاد، فهو المعيل الوحيد لأهله، ويعجز عن تأمين الدواء لوالده المقعد على كرسي متحرك، خاصة مع ازدياد حصار الاحتلال الإسرائيلي، وإغلاق المعابر حتى من الجانب المصري الخناق على سكان القطاع.
بمشاهد صامتة تلاحق الكاميرا وجه عبدالله الذي يقاسي آلام الغربة، والسعي لتحقيق أحلامه، والصقيع الذي أصاب قلبه في بلادٍ أصبح فيها غريباً في كل مكان. فبين جهاد وعبدالله عتبٌ على مغادرة الفريق، حيث تكشف حواراته مع أصدقائه حجم الحزن والأسى الكامن في داخل جهاد على فراق صديقه ومؤسس فريق «غزة باركور»، ومع ذلك ظلّ جهاد يتابع تدريباته في ظروف قاهرة.
غزة باركور لازم تستمر، جيل يُسلّم جيل. طريق ماشي متل السهم، مستحيل يوقف من جيل لجيل.
جهاد، مؤسس فريق باركور في غزة
يسعى جهاد أيضاً إلى التحليق خارج غزة، فتأتي الموافقة عل تأشيرة دخول إلى أوروبا، تستقبل والدته هذا الخبر بالحزن والدموع، و مع هذا تبارك له بحثه عن المستقبل، ويتوعّد لها أن يغيّر حياتهما. تدريبه يستمر كل يوم، و تتواصل مشاهد القمع بالظهور، من خلال المواجهات اليومية عند الجدار مع قوات الاحتلال المدجج بالسلاح ورميه القنابل المسيلة للدموع على مسيرات العودة عند جدار الفصل العنصري، الوحيد في عالمنا الحالي.
يذهب الوثائقي بالتوازي بين الشابين، ويصوّر مشاهد من مشاركة عبدلله في التصفيات الأولية الدولية لرياضة «باركور» في السويد، وفشله في اجتيازها، لم يشر الفيلم إلى أسباب خروج عبدالله من التصفيات الأولى، إنما ترك أمر توصيلها للمشاهد عبر المقارنة البصرية بينه وبين المشاركين، يعزز ذلك الانطباع الذي نقله الوثائقي بشكل مبطن. «باركور» بالنسبة لكل من جهاد وعبدالله أكثر من رياضة للتسلية، هي وسيلة لكسر الحواجز والانطلاق إلى فضاء رحب خال من القيود والأسى.
في الختام، جهاد يتأمل غزة من نافذته، بعد أن منعته إسرائيل من السفر خارجها، ويزيد من قتامة هذا المشهد، إعلان خبر تعرّض عبدالله لحادث أثناء التدريب، وهو الذي افترش أنفاق المترو وحافات الطرقات مكاناً له. يعطينا الفيلم انطباعاً، أن هذا ليس مصير محتماً لسكان قطاع غزة ولا لشبابها، إن هذا مصيراً محكوماً، تفرضه قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي تسلب أو تشل حرية الأفراد، أينما كانوا، وأينمّا حلّو، ولا يمكن نيّل الحرية إلاّ باندثار هذا الاحتلال.
«قفزة أخرى»، مُتاح على أفلامنا حتى الأربعاء 1:59 PM. :رابط المشاهدة فيما يلي