المسرح السياسي: دوائر متداخلة في النشأة والتطور

لا يمكن الحديث عن المسرح السياسي، من دون العودة إلى بدايات المسرح، الذي ارتبط منذ نشأته ارتباطا وثيقا بالسياسة والحروب. في الحقبة الإغريقية، نرى أن الشعراء راقت لهم، فكرة إقحام السياسة في المسرح. على سبيل المثال، عمد الكاتب الإغريقي اسخيليوس، في مسرحية «برومثيوس مقيدا»، إلى إظهار قوتين متناقضتين: «زيوس قوة الشر، وبرومثيوس قوة الخير»[1]. يبدو واضحاً موقف الكاتب في هذا النص تجاه السلطة السياسية، التي كانت قائمة يومها. فجعل الكاتب من الإله زيوس طاغية، وجسد عنف السلطة في شخصية الوزير الذي يحرس بيرومثيوس «بشكل قاس وغير دستوري ولا يعترف بأية قوانين» [2].
نشأة وتطور المسرح السياسي:
لم يقف تطور المسرح السياسي في عصر النهضة. بل، استمر المسرح في طرح القضايا السياسية. فمسرحية «ماكبث»، للكاتب المسرحي البريطاني وليم شكسبير «تعد أكثر عوالم الكاتب هوساً بالأفكار التسلطية، فكل شيئ يسوده القتل والخوف من القتل»[3]. طرح شكسبير من خلال هذه المسرحية، فكرة الصراع على السلطة. كذا مسرحيات «عطيل، هاملت، يوليوس قيصر»… كلها مسرحيات مرتبطة بسياسة العصر الإليزابيثي.
يوضح هذا العرض التاريخي المقتضب، أن المسرح ظلَّ مطعماً بالسياسة، وصولا إلى القرن التاسع عشر، حيث بدأ يتبلور أكثر فأكثر، وساهمت الحروب في التأثير على نشأة المسرح السياسي.
«كان للأحداث السياسية التي شهدها العالم إبّان الحرب العالمية الأولى، والثانية، والثورة البولشفية، وتأسيس الأحزاب البروليتارية، والعمالية، والإشتراكية، في أوروبا والعالم الثالث، تأثيراً على التوجه نحو خلق مسرح سياسي»[4].
فن الأوتشرك:
بعد نجاح الثورة الروسية عام (1917)، أرادت مجموعة من الصحفيين والأدبيين ترسيخ مفاهيم الحزب، والثورة الماركسية على الفنون والآداب. يومها، تم ابتداع فن «الأوتشرك»، وهي كلمة روسية تعني: التحقيق الصحفي.
عالج الأدباء والفنانون والصحافيون، من خلال هذه الصيغة، أحداثا سياسية، واقتصادية، واجتماعية. واتخذوا من الحدائق العامة والشوارع، منابر مسرحية لتوصيل أفكار هذا الفن، وضربوا بعرض الحائط القواعد الفنية المسرحية.

لكنَّ هذا النوع الفني الجديد، لم يعمر طويلا. إذ، سرعان ما تمت العودة إلى الأشكال الفنية التقليدية. رغم ذلك، استمرت هذه الظاهرة في ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. حيث ازداد الوعي السياسي، مما استدعى فناً يقوم على الإحتجاج والتحريض واللإثارة. «فتكونت في ألمانيا: فرق الإثارة، وجماعة القمصان الحمراء. ونادت ليكون المسرح وسيلة من وسائل النضال وتعبئة الجماهير»[5].
المسرح: بين الفن والسياسة
على صعيد آخر، لا بد من الإشارة إلى أنَّ ما أفرزته الحروب من هجرة ونفي الفنانيين من بلادهم، ساهم بشكل كبير في تعزيز دور المسرح السياسي. خاصة أنهم باتوا يتمتعون بحرية أكثر، فكان لديهم توجه لخلق مسرح يربط بين الفن والسياسة، ويعطي للمسرح دوراً تحريضياً.
هذا التوجه، كانت قد شهدته كلٌّ من ألمانيا والإتحاد السوفيتي، في عشرينيات القرن الماضي، ثم في الولايات المتحدة الأميركية، إبّان الأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات، بتأثير من رجال المسرح الذين هاجروا إليها، وشاركوا في تأسيس مسرح سياسي، أمثال الألمانيين بروتلت بريخت، وإروين بيسكاتور.
المسرح السياسي: من الإعداد إلى العرض
عندما نتحدث عن إعداد مسرحية سياسية، فالفكرة يجب أن تبدأ باختيار المخرج أو الكاتب لموقف اجتماعي محدد. هذا الموقف لا بدَّ أن يشكل معاناة لدى مجموعة من الناس من الطبقة الكادحة. بعد اختيار الموقف الإجتماعي، يحاول المخرج أو الكاتب أو الدراماتورج حتى، بلورة الفكرة التي تم اختيارها، في إطار فني ومسرحي، لإيصالها إلى نفس الطبقة التي تعاني من هذه المشكلة.
«يأتي ذلك من منطلق أن المسرح كان متاحاً للطبقات الأرستقراطية فقط. فدعت الحاجة إلى أن يسخّر المسرح طاقاته لخدمة الفئات الإجتماعية الأخرى، لينحاز تماما إلى هؤلاء الكادحين وينصر قضيتهم»[6] .
ولا بد من القول، بأن عروض المسرح السياسي، لا تطرح القضية بشكل مجرد أو في إطارها العام، أو إذا صح التعبير بشكل حيادي. وإنما، يعمل على تسييس الأحداث، لدمجها في منظومة سياسية لمرحلة معينة.
لذلك نرى أن «المسرح السياسي يستخدم الخطابات والوثائق والأفلام التسجيلية والصحف، وأقوال الناس والأحداث المباشرة اليومية، والبيانات الاقتصادية ويقدمها كبنية لحياة يومية معاشة. ومما لا شك فيه أن المسرح باعتباره تجمعاً شعبيا يتفاعل مع الحاضرين، أيما كان الموضوع الذي يطرح على الخشبة أمام المتفرجين، هو سياسي بالمعنى الواسع لكلمة السياسة»[7].
بين المسرح والمنابر السياسية:
في المحصلة، يمكن القول وكأنَّ «المسرح الذي يطرح القضايا هو أقرب إلى المنبر السياسي الذي يتوسطه زعيم يخاطب الناس بشكل مباشر وقريب ويحاول أن يؤثر عليهم ويكسبهم. طبعاً مع الإختلاف في مضمون الأفكار بين المسرح والمنابر السياسية، والأدوات الفنية. هذا النوع المسرحي هو عبارة عن دوائر متداخلة، لإنه يشمل كل الجوانب السياسية، والإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية، والإيديولوجية»[8].
[1] إسخليوس، تراجيايات إسخليوس – برومثيوس مغلولاً-، ترجمة: عبد الرحمن بدوي،ط 1، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1996، ص. 20
[2] جورج تومسن، اسخليوس وأثينا، ترجمة: صالح جواد كاظم، وزارة الإعلام، بغداد، 1975، ص.324
[3] يان كوت، شكسبير معاصرنا، ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا، منشورات وزارة الثقافة والفنون، بغداد، 1979، ص. 13
[4] قصاب، حنان، إلياس، ماري، المعجم المسرحي: مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 2018، المرجع إالسابق، ص. 258
[5] محمد، عزام، مسرح سعد الله ونوس بين التوظيف الدراسي والتجريب الحداثي، دار علاء الدسن، دمشق، ط1، 2003، ص. 195 – 196
[6] أردش، سعد، المخرج في المسرح المعاصر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1979 ص. 193
[7] نهاد، صليحة، المسرح السياسي في القطاع الخاص، مجلة المسرح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، العدد 16، 1990، ص. 44
[8] عبد الغني، مصطفى ، المسرح المصري في الثمانينات دراسة في النص المسرحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995، ص. 50