تعرف على الدادية، السريالية، التكعيبية وغيرها

جمال الطبيعة يطغى على لوحات الرسامين، الجمهور يشاهد على خشبات المسارح في أوروبا وروسيا العروض المسرحية الواقعية والتاريخية، الموسيقى في دور الأوبرا نخبوية، وكتب الأدب الممل تسيطر على رفوف المكتبات. إنها نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، الحاجة باتت ملحة للتغيير بنظر الفنانيين والجماهير. أحداث متلاحقة ومتسارعة تبدأ مع الحرب العالمية الأولى وتنتهي بحرب عالمية ثانية، وبينهما ثورة صناعية يشهدها العصر. اختلفت الصورة، الفن يشهداً تغييراً، اللوحات صارت تكعبية مثلاً، المسارح تستغني عن الممثلين، السينما سريالية، والأدب صار تعبيرياً. الفن أخذ من جنون الحرب، وتكونت تيارات فنية زال بعضها وتطور بعضها الآخر. فما هي عوامل نشأة التيارات الفنية المعاصرة مثل: الدادية، السريالية، التكعيبية،وغيرها من التيارات الفنية كالتعبيرية، المستقبلية وغيرها، ومن هم أهم رواد الفن المعاصر؟
المستقبلية: التركيز على النفس البشرية
بينما كان ربيع عام 1918 هادئاً، تفاجأ سكان منطقة بوستو أرسيتسيو الإيطالية بسماع صوت الطائرات الحربية التي تنفث الدخان الملون منها، وتصدر أصواتاً إيقاعية، وترشح منها روائح عطرة. الطائرات تقوم بحركة صاعدة توحي بالأمل، أو حركة دائرية توحي بالضيق، وبعد ذلك، حركة ساقطة توحي بالاستسلام. لم تكن هذه الحرب، بل إن ما شاهده السكان كان عرضاً مسرحياً اتخذ من السماء خشبة ومن الطائرات ممثلين له. حينها، قام الطيار الإيطالي فيديلي أزارى بعروض هوائية فابتدع مسرح الهواء، ضمن تيار فني اسمه المستقبلية.
ليس بعيداً عن ذلك الزمن، قام أحد المخرجين المسرحيين بإلغاء كل الممثلين والإستعاضة عنهم بأشكال معدنية تشكيلية منها المكعب أو المسطح او الحلزوني، ذات أشكال هندسية مختلفة ولكل منها شكل ولون معين للتعبير عن تطور البيئة.
ذهب المستقبليون أبعد من ذلك، فكان أطول نص مسرحي، يُقرأ بثوان، مثلاً مسرحية “ليس هناك كلب أطول”. الشخصية: لا وجود له، النص هو التالي: “طريق بارد مهجور ليلا، كلب يعبر الطريق”. انتهت المسرحية.
ابتدع عدد من الرواد الفنيين هذا التيار المسرحي في محاولةٍ منهم، لتغير القواعد المسرحية وهدمها، استغنوا عن الممثلين والنص والحدث الكلاسيكيين في المسرح. ولم يعد يهمهم سوى التركيز على مادة وحيدة، هي النفس البشرية، التي يتم التطرق إليها بحالاتها الوجدانية المتعددة في إطار بعيد عن الواقع والمنطق.

الدادية: جنون العصر
كانت حالة السخط من كل شيئ تسود الأوساط الفنية، ولإن المستقبلية لم يحشد لها كثيراً، بدأت تيارات فنية جديدة تبرز، مثل: الدادية السريالية و التكعيبية، وفي العام 1916، جاء تيار جديد اسمه الدادية .
في مقهى صغير في إحدى المدن الألمانية، اجتمع شاعر ورسام ألمانيان وشاعر مجري، احتدم النقاش بينهم حول طبيعة الفن، واتفقوا على أن الحاجة ماسةٌ لتأسيس تيار فني جديد يهدم كل شيئ، كحال الحرب التي هدمت كل شيئ حولهم، وأول كلمة صادفوه “دا دا” والتي تعني بالفرنسية “الحصان الخشبي”، وبالروسية “نعم نعم”. هكذا بكل تلقائية، أطلقوا على أنفسهم الداديين.

كانت الأعمال الدادية في المسرح جنونية، قريبة لجنون العصر كما قال هانز آرب. تقوم على الصريخ وتوجيه السباب للجمهور وقرع الطبول أمامهم والرقص الهستيري على الخشبة. هذه الحركة التي قامت على الإنكار، والرفض، والإلغاء، عجزت عن الاستمرار في المسرح، لكنها استمرت في فنون أخرى لحين صغير، فما كان من روادها سوى إنكار الحركة ونفيها نفياً تاماً، بعد أن واجهوا العقم في الاستمرار، وأسسوا حركة السريالية.
السريالية: العقاقير والتنويم المغناطسي
في العام 1922 بدأت الدادية تنحسر،والسريالية تتصاعد، نظراً لتركيز روادها فقط على التحطيم والعدمية في الأفكار، فما كان من أندريه بيرتون، أحد مؤسسي الدادية، إلا أن انفصل عنها وأعلن ذلك في مقال عنوانه “اتركوا كل شيئ” وأسس الحركة السريالية. بريتون إلتقى سيغموند فرويد في فيينا في العالم ،1921 بعد أن تأثر كثيراً بنظرية الأحلام، واعتنق نظرية فرويد للنفس البشرية. وفي العام 1924 أعلن عن مبادئ السريالية والتي دعت لإطلاق العنان للفكر والخيال وعدم التقييد بالقواعد.

تدعو هذه الحركة الفنية إلى تغييب سلطة العقل تماماً عن التعبير، لذلك كانت دعوة مؤسسيها لأي كاتب أو شاعر أو رسام، لأن يسترخي فقط، وأول ما يتبادر إلى ذهنه يجب رسمه أو تدوينه، وقتها يتدفق اللاوعي ويظهر فن قريب إلى الأحلام.
النفس البشرية عالم ثري مليئ بالتناقضات والأوجاع والرغبات ويجب التعبير عنها
بيرتون
لجأ السرياليون إلى التنويم المغناطسي، وتناول العقاقير، لينفذ الفنان من سلطة العقل، إلى مناطق غامضة في النفس البشرية، مناطق تجمع الحب والجمال والبشاعة والجنس والسادية حيث “السر الغامض والحقيقة المطلقة للنفس البشرية” بحسب بريتون. هذه الحركة التي كسرت القواعد المتبعة في الفنون، أكدت أن النفس البشرية عالم ثري مليئ بالتناقضات والأوجاع والرغبات ويجب التعبير عنها.
التعبيرية: الذاتية المفرطة
على الرغم من أن السريالية تدعو للتعبير، لكن تياراً آخر، أخذ من هذه الكلمة اسما له، فكانت التعبيرية التي ازدهرت في ألمانيا بين الأعوام 1910 و 1925، وبقيت على عكس حركات الدادية و التكعيبية، الأخرى صامدةً. ففي العام 1968، أثار المسرحي الروسي بيجي غروتفسكي في مختبره المسرحي، الجدل في الأوساط الفنية، بعد عرضه المسرحي “أكروبوليس”، كذلك أثار المخرج المسرحي البريطاني بيتر بروك، هذا النقاش بعد عرضه المسرحي “المارساد” في الستينيات أيضا، فاستخدما الأسلوب التعبيري في عروضهم.
ألغى التعبيريون الحبكة الأرسطية (التي تقوم على البداية، العقدة، النهاية) بل جعلوا من رؤيتهم الذاتية مشروعاً للإبداع الفني. يتميز التعبيريون بالذاتية المفرطة، كما حملوا روح الثورة في داخلهم، مما اضطر الحزب الاشتراكي القومي في ألمانيا إلى قمعهم، مع أنها كانت حركة روحية لا سياسية، تهدف لإعادة تكوين المجتمع دون أي إيديولوجيا محددة.
التكعيبية:
تدعو التكعيبية للجوء إلى اللاوعي والفانتزيا والأحلام، في بداية القرن التاسع عشر وجد التكعيبيون فجوة كبيرة بين الفن والعلم، لذلك احكموا العقل في التعبير عن الفن واستخدموا الأشكال الهندسية ومختلف العلوم والرياضيات للتعبير عن أي شيئ، بحسب نظرتهم فإنهم رفعوا الفن الى مستوى العقل دون تجاهل العواطف. يُعتبر الرسام الفرنسي سيزان كان، الأب الروحي للتكعيبين. وقد ظهرت التكعيبية جلياً في أعمال بيكاسو، كما ظهرت بشكلها الحقيقي في السينما حيث يقول المخرج الروسي سيرجي آيزنشتاين إن ما أهدف إليه هو نقل الحادثة ثم تقطيعها إلى لقطات، ثم تجميع هذه اللقطات عن طريق المونتاج بشكل معقد، فتظهر كل لقطة بشكل جديد من خلال علاقاتها مع اللقطات الأخرى.
تصوير أي تجربة حسية أو فكرية من جميع وجهات النظر الممكن تصورها
التكعيبيون
لذلك فإن التكعيبية في تعريفها، هي محاولة فهم العالم عن طريق تحليل كل جزء من التجربة إلى مستويات عديدة وتحليل العلاقات المتشابكة. حرص التكعيبيون على تصوير أي تجربة حسية أو فكرية من جميع وجهات النظر الممكن تصورها، ليتمكن الجمهور من رؤيتها، بكافة جوانبها وأبعادها ومستوياتها.

تعددت التيارات الفنية المعاصرة في القرن الماضي، منها ما بقي حتى يومنا هذا، يشهد إقبالاً، ومنها ما اضمحل مع مرور الزمن.
جدير بالذكر أن الدادية، السريالية و التكعيبية وغيرها، امتدت لتشمل أنواع الفنون السبعة. لكن على سبيل المثال، تعززت التكعيبية في أعمال الرسم أكثر من المسرح. امتدت هذه التيارات على مدى السنوات، لتعطي طابعاً خاصاً، تميز الأعمال الفنية، وتساهم في دراستها، وفق الأصول العلمية والفنية، مما يساعد في إعادة تحليلها وتفكيكها.