مسرح

راقصات بينا باوش: المرأة ليس قرباناً

حمل العرض المسرحي  الراقص طقوس الربيع 1975، للراقصة والكوريوغراف والمخرجة المسرحية الألمانية بينا باوش، منحىً جديداً في عالم المسرح والرقص المعاصر، على مستوى الشكل والمضمون. فبعد أن كان جسد الراقصات مقيداً بخمس حركات مستقاة من رقص الباليه الكلاسيكي مع تنوعاتها، آواخر خمسينيات القرن الماضي، استطاعت تحرير الجسد حركياً. أما في المضمون، فقد أوجدت Pina Bausch طريقة تعكس العلاقات الإنسانية على المسرح، واستطاعت أن تسخر الحركات الجسمانية، لتعكسَ أجزاءً من الحياة الواقعية والعلاقات العاطفية أيضاً. فكيف طرحت بينا باوش في العرض المسرحي The Rite Of Spring ومن خلال الأنثروبولوجيا الخاصة بكل راقصة، الواقع الإنساني للمرأة من خلال الحركات الجسدية الحرة؟ وماذا تقول راقصات بينا باوش حول المرأة؟

عرض طقوس الربيع:

تقول بينا باوش : Here where not stories told, bust experiences staged 1 أي أنه في أعمالها لا تركز على القصة وإنما على التجربة. وهذا ما ظهر في عرض “طقوس الربيع”. حيث تتوسط قطعة القماش الحمراء، الفضاء المسرحي، يتم تمريرها من راقصة إلى أخرى، وكل من تمسك بها، يكون الإختيار قد وقع عليها، لتكون قرباناً. عندما يحين الموت، تبدأ الراقصة الضحية بالقفز، والركض، والدوران، من اليمين إلى اليسار، وترثي نفسها من خلال الحركات الجسدية الأقرب إلى تباشير الموت.

راقصات-بينا-باوش

تقوم الفكرة الأصلية للعرض على الموروث الفولكلوري وبعض التقاليد الوثنية: مع وصول الربيع، يقع اختيار القبيلة على امرأة عذراء لتكون القربان، وتتم التضحية بها لضمان محصول جيد. يهرع الراقصون في أرجاء المسرح، ويملأون الفراغ في سلسلة حركية تركز على استخدام العضلات، مثل الدوس على القدمين، واستعراض الأذرع، وصفع الأيدي ببعضها البعض. الرجال والنساء هنا في حالة عدائية تجاه بعضهم البعض. يتم احتجاز النساء وحتى جثثهن، وتكافح النساء من أجل الفرار.

“كنا دوماً نبحث عن أفكار جديدة، تجعل من أجسادنا كنساء، كائنات جميلة”

Helen Pickett

في هذا العرض، يتراءى أمامك مشهد قاتم بألوانه ومعانيه، تحولت فيه خشبة المسرح إلى قطعة من  التراب، يقدم  خلالها الراقصون، النساءَ كأضاحي وقرابين. كانت بارزة عضلات الرجال، مقابل تهميش دور النساء وتقديمهن بصورة الضعف. مما يجعل المفاهيم السائدة حول العذرية محل سؤال وإستفهام خاصة في المجتمعات المحافظة.

شهادات حية لراقصات عملن مع Pina Bausch:

في مقالة صدرت في أيلول2017  في Dance Magazine تحت عنوان: لماذا ألهمت بينا الآخرين كما لم يقم أحد بذلك؟[2] تقول الراقصة Aszure Barton التي عملت مع باوش، إن بينا ألهمتها لخلق أشياء لم تكن تفكر في البوح عنها، ودعتها للاستماع إلى حدسها  الخاص.

Helen Pickett، تقول بأن أعمال باوش ألهمتها لتكوين أعمال مسرحية راقصة قوامها: الإنسانية، وتضيف: “كنا دوماً نبحث عن أفكار جديدة، تجعل من أجسادنا، كائنات جميلة”.

أعمال بينا باوش تمحورت حول المرأة والأطر الإجتماعية الضيقة التي كانت تشكل عائقاً أمامها في التقدم، والنظرة الخاطئة تجاه عذريتها وقيمتها وفق الميثولوجيا الوثنية

في معرض حديثها عن أعمال باوش، تقول Natasha Diamond-Walker وهي مصممة رقص، إن بينا جردت المفاهيم النمطية المتعلقة بالجنس والجندرية والعمر، وقدمت كل هذه المفاهيم بصورة صادقة كما في صورها الأساسية.

Tsai-Chin Yu وهي راقصة من تايوان تبلغ من العمر 37 عاماً انضمت الى فرقة بينا قبل موتها بسنة واحدة،أدت دوراً في The Rite of Spring – عرض بروكلين، أدت دورَ المرأة التي يقع الإختيار عليها من قبيلة متوحشة وعنيفة ودموية تعيش فيها، لتكون قرباناً لهم، وتقوم بنهاية المطاف بتقديم رقصة “الموت المروع”، التي تعتمد على حركات ذات طابع متشنج. كيف حافظت على التشنج الذي انعكس شدةً في الأداء؟ تجيب Tsai أن هناك صراعاً داخلياً يمكن استخدامه لفعل الحركة، تريد أن تفعلها ولا تريد ذلك بنفس الوقت لإن ذلك سيحتم عليها الموت.

راقصات-بينا-باوش

Nazareth Panadero البالغة من العمر 62 عاماً، والتي انضمت الى فرقة بينا عام 1979، تقول إنه من غيرالمألوف أن ترى راقصين يمضون مع فرقتهم لسنوات طويلة، لكن بينا كانت مهتمة برؤية راقصة تتقدم بالعمر، لتعلم ما يمكن لراقصة أن تقدم بعد خبرة طويلة.

من خلال عرضنا لشهادات بعض الراقصات اللواتي تأثرن بكيفية عمل بينا باوش. يتبين لنا أن باوش استطاعت أن تحدث تغييراً في النفس الإنسانية للراقصة تجاه نفسها من جهة، وأن تحدث تغييراً في نظرة المجتمع تجاه المرأة من جهة ثانية. فأغلب الراقصات في حالة العرض قد يكن تعرضن للتعذيب أو الإضطهاد، فعكسن هذه الصورة من خلال الرقص، وهكذا تكون باوش قد عملت على الإنثربولوجيا الخاصة بكل راقصة، وعكست من خلال تجارب الراقصات الشخصية، الواقع الإنساني لها. 

إن أعمال بينا باوش تمحورت حول المرأة والأطر الإجتماعية الضيقة التي كانت تشكل عائقاً أمامها في التقدم، والنظرة الخاطئة تجاه عذريتها وقيمتها، وفق الميثولوجيا الوثنية وامتدادها عبر التاريخ، وتمسك المجتمع بهذه المفاهيم.

لقد قدمت Pina Bausch صورة المرأة بكل حقيقتها، وليست الحقيقة المجتزئة التي كانت حركات الباليه الكلاسيكية تصور المرأة على أنها رمزاً للعذرية والنقاء وحسب، بل قدمت باوش المرأة بمعاناتها وجمالها وقسوتها. ومن المعروف أن هذا النوع من الأعمال جاء نتاجا لحركة تحرير المرأة من ممارسات المجتمع البطريركي (الابوي) الذي كان يمارس القهر والتمييز ضد المرأة. وعليه، فإن هذا العمل جاء ترجمة لتكسير المفاهيم الخاطئة تجاه المرأة.


[1]  Pina Bausch, Encyclopedia of world biography, 30 Jan 2013

[2] https://www.dancemagazine.com/pina-bausch-2484085996.html

خليل الحاج علي

صحافي متخصص في الشأن الثقافي، حاصل على دراسات عليا في المسرح والفنون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى