وجوه

فؤاد التكرلي: مدون التفاصيل

تراءى لي المشهد نفسه أيام الصغر، كان أبي يجلس خلف المنضدة الخشبية، متصفحاً جريدة السفير، التي ما عادت تصدر الآن. أذكر حينها، كانت تصدر مع “السفير” سلسلة كتب شهرية. هذه الكتب، توزع مجاناً مع صحف من الدول العربية منها : القبس الكويتية، القاهرة المصرية، الإتحاد العراقية… وذلك نهار آخر سبت، من آخر كل شهر، تحمل سلسة المنشورات عنوان: الكتاب للجميع. صدرت عن هذه السلسة، كتب عديدة للكاتب العراقي فؤاد التكرلي، الذي أغنى الثقافة العربية بكتاباته

“لا سبب يدعوني لإعادة النظر في تلك البقية الباقية من الكتب. لم يكترث أبي ليدعوني لقراءة كل تلك الكتب، أكان يائساً مني إلى هذا الحد؟ أم كان يائساً من فائدة الكتب والقراءة لأي إنسان؟”، مقاربة الكاتب العراقي العتيق فؤاد التكرلي، في كتاب “اللاسؤال واللاجواب”، تنطبق علي إلى حد التماهي مع مشهدية أبيه. ولكن اليوم، أقرأ هذه السلسة، من منظور مختلف، بعد أن خبأ أبي الكثير من الصفحات، في مكتبة خشبية صغيرة. صدرت عن هذه السلسة، كتب عديدة للكاتب العراقي فؤاد التكرلي، الذي أغنى الثقافة العربية بكتاباته.   

فؤاد التكرلي (1927- 2008) الذي عمل كدبلوماسي عراقي أيام حرب الخليج، تشبه كتاباته، لوحات مسرحية مكتملة المعالم والبناء. من الحبكة إلى الشخصيات، وصولاً لكتابة الأفكار على الورق. تُخيل إليك المشهدية وكأنها على المسرح أمامك.

“لم يبقَ من الشمس إلاً فتيلة من الضوء الأحمر، تنحشر بين سحاب أسود كثيف”

التكرلي

يغوص التكرلي في سبر أغوار الشخصية، ويُظهر معالمها وتفاصيلها، لديه القدرة على وصف كل شيئ بأقل عددٍ ممكن من الكلمات. معظم الشخصيات التي يخلقها، تعاني من إضطرابات سيكولوجية، قد يدفعها حدث صغير، لتظهر جنوناً تضمره في أعماقها. شخصيات جامحة، تنحو صوب القتل أو الجنون أو الإنتحار. تتميز القصص القصيرة بالبعد عن الأحداث البوليسية. الأسلوب الروائي يذكرنا كثيراً بأسلوب دوستويفسكي، الذي يغوص في الشخصية، ونزاعاتها، وعقدها، وذكرياتها، وبيئتها، ومحيطها، ونشأتها.

غيمات: مكررات سردية

“مرت على بصري تلك الرسوم المشوهة على الحيطان وبقع الطين والقذارات الأخرى… مما منحني مع رائحة البناية العطنة، شعوراً بالإرتياح المتأتي من وجودي في مكاني الخاص”… يصور التكرلي من خلال كلماته كل ما يحيط الشخصيات وحواسها، وكيفية انعكاس ذلك على خطها وأفعالها المتصلة. ورد ذلك في “غيمات” وهي “مكررات سردية تبحث عن اختلاف الدلالة”.

غيمة أولى وثانية وثالثة. كرر خلالها الكاتب العبارات ذاتها: “لم يبقَ من الشمس إلاً فتيلة من الضوء الأحمر، تنحشر بين سحاب أسود كثيف”. يستدل عقل القارئ من خلال ذلك، على كل جوانب الحبكة.

بالإضافة إلى “غيمات” هناك: “الساعة لم تكن الخامسة” “أربع أقاصيص صغيرة” “إلتباس” و”الطرق المثلى” وغيرها… دون الكاتب في نهاية كل منها مكان وتاريخ كتابتها. كان أكثرها في تونس، حيث مضى الكاتب سنوات من حياته، بعد تقاعده من مناصب دبلوماسية شغلها في العراق وخارجه.

مؤلف “اللاسؤال واللاجواب”، جعل من الكتابة العربية، كتابةً بسيطة، سهلة، مسلية. لعوب، يمرح بين صفحات رواياته كطفلٍ عراقي صغيرٍ، أخذ من نشأنه وثقافته ومحيطه، الكثير من التجارب، ودونها بكل تفاصيلها.

خليل الحاج علي

صحافي متخصص في الشأن الثقافي، حاصل على دراسات عليا في المسرح والفنون.
زر الذهاب إلى الأعلى