
لطالما اعتدنا على العروض المسرحية الذاتية، في بيروت، وتفاوتت نسبة ملامسة هذه العروض للجمهور على حسب المشروع الفني، ومقاربة الفنان للذات، ومدى تقاطعها مع الجمعي. حيث من الصعب، نسبياً، الانتقال من الفردي والشخصي للجمعي، خصوصاً، مع غياب الحكاية الشخصية، وتداخل مفهوم القاص مع المونودراما. فنجد أنفسنا أمام عروض تحمل السمة الذاتية ولكنها في الحقيقة هي عبارة عن تداع حر، لا يملك العناصر الإبداعية في معظم الأوقات، وهذا ما ينعكس بالشكل النهائي وكيفية تلقينا للعرض وحكايته ومقولته.
العرض الذي نحن في صدد مراجعته اليوم هو عرض كسر هذه القاعدة، ونقل نوعية العروض الذاتية لمستوى جديد، من المقاربة الإنسانية والإنغماسية، بكل ما تعنيه هذه المصطلحات، عرض «وحدتي» لفاديا التنير، الذي تم عرضه في عام 2021 مع نهاية الجائحة، وتمت إعادته في الشهر الخامس من عام 2023. حيث يعتبر من العروض الاستثنائية، لصانعة مسرحية لديها ما لا يقل عن 30 عاماً، من التجارب المسرحية المتراكمة التي قولبت مسيرتها المسرحية وأغنتها على معظم الأصعدة. ارتبط اسم فاديا في ذاكرتنا مع مسرح الدمى ومسرح الطفل، حيث حفرت فاديا مكانتها ضمن هذا النوع من المسرح، عبر السنين الماضية، ولكن من المهم التنويه لتنوع تجربة فاديا المسرحية وتوسيع دائرة الضوء عليها، كمؤدية متفانية في إتقانها لأدوار فريدة من نوعها.
استخدمت فاديا العديد من الوسائط اليومية كأدوات لتحفيز عملية التلقي للزوار.
يبدأ عرض «وحدتي» من إعلان فاديا عن العرض ونوعيته، كأنها تدعو أصدقاء لاستضافتهم في منزلها الكائن في حي «البربير» في قلب مدينة بيروت. إعلان شخصي بعيد عن جميع مظاهر الابتذال والتعقيد. «زيارة إلى منزلي وذكرياتي» تفتح فاديا عبر إعلانها، هذا باب المكاشفة وتدعونا للخوض في عالمها الخاص وفضائها الشخصي، وكل عرض هو لعدد محدود من الأشخاص لا يتعدى 15 متلقياً، وذلك بسبب نوعية العرض وخصوصية مساحته.
عرض انغماسي، وحميمي:
يصل الزوار (جمهور العرض)، لمدخل مبنى منزل فادية، وتقوم باستقبالهم بشكل خاص، وشكرهم لتلبية دعوتها الخاصة، وترحب فيهم في أول محطة من العرض، في مدخل المنزل، عبر سردها لتاريخ حميمية هذا المنزل واعتياده على الاكتظاظ الدائم بالزوار والأصدقاء. ولكن الزمن تغير، وتحول هذا الاكتظاظ لفراغ دائم وبارد، لذلك تشكر فاديا الحضور مرة ثانية لإحيائهم المنزل من جديد، وتدخلهم للمحطة الثانية، غرفة الجلوس، والتي تطلق عليها فاديا غرفة الصور والذكريات وتسرد حكايتها الشخصية مع الصور وعن قلة حظها بتوثيق طفولتها كما يجب، وتحمل هذه الحكاية طبقة حفية من علاقة فاديا بوالدتها، كونها تعيش في أسرة مكونة من العديد من الأخوة والأخوات، وطبيعة علاقتها معهم ومكانتها فيما بينهم. من هنا تبدأ قسوة العرض عبر مقولة «الصورة خاينة» وذلك بسبب عدم قدرتنا على سماع ضحكات من نحبهم فيها أو حتى أن نشم رائحتهم.

استخدمت فاديا العديد من الوسائط اليومية كأدوات لتحفيز عملية التلقي للزوار. منها: ألبومات الصور الشخصية، وتنقلها بين أيدي الحاضرين، والتحدث عن قصة كل صورة، بالإضافة لاستخدام «زريعة الحبق»، وطلبها من الحضور بلمسها و«تغنيجها»، ليكونوا قادرين على شم رائحتها، التي تطبع معظم ذكرياتها مع والدتها. مما نقل العرض لتجربة انغماسية حسية لجميع الحواس، تتسم بالعفوية والبساطة.
نتنقل بين المحطات والغرف وتسرد فاديا الكثير من الحكايا والقصص، فمن بلكونة المنزل وعلاقتها مع الشارع والجيران القاطنين في محيط منزلها والمارين من شارع المنزل وصولاً لغرفة الضيوف «غرفة الأغراض» وصولاً لغرفة الطعام.
تقوم فاديا بتوظيف كل أدواتها من التبني لشخصيات من ذاكرتها، وتجسيد صور محددة وتلوينها عبر إعادة إحيائها أمام الحضور، باستخدام أبسط الأدوات من الشال والكنبة وألعاب الأطفال، كما تعاملت مع أغراض شخصيات عرضها بشكل حميمي، يوفي حق ذاكرتها، فكانت قادرة على إحياء جميع الذكريات المتعلقة بالأغراض، وصولاً لتشجعيها الحضور، على الغناء معها لعدة أغان متعلقة بالمدينة التي تحب، وتتذكر وتنهي العرض بمشاركتهم الضيافة البيروتية «جلاب و حلوى الإكلير».
فاديا التنير: صانعة السحر والبهجة

خصصت فاديا القسم الأكبر من العرض للتحدث عن حكاية أختها الكبيرة حنان، والخوض في تفاصيل علاقتها معها، ومع نوعية مرضها الخاص الذي أثقل العائلة بهم كبير. ولكن فاديا تعاملت معه بكل خفة وحب، نستطيع ملاحظة ثقل وحساسية حنان في اختلاف طبيعة سرد فاديا، حين تتحدث عنها ونتنقل لنا هذه الغصة مع كل شهقة وصوت تقلده فاديا. لكن خفة فاديا وعفويتها، كانت كفيلة بتنفيس هذا الثقل من على قلب الحضور، مثلما كانت تخففه عن قلب أختها حنان. ترجع فاديا فضل معظم ما تعلمت في الحياة والمسرح والحب، لأختها حنان مما يثري جميع المشاعر التي شاركتنا إياها ويضعها بمكان نبيل يليق بها.
يخوض الحضور هذه التجربة الحسية بكل تقلباتها وعناصرها من الضحك، والحنين، والحزن، والحداد، والغضب، والحلم، وتنتهي هذه التجربة بالامتنان. الامتنان لوجود فاديا الصانعة المسرحية القادرة على صناعة السحر والبهجة في قالب القسوة والحزن.
تمر هذه التجربة بصمت وخفة بدون أي بهرجة وإدعاءات وتسويق، بعيداً عن المسارح والفضاءات الثقافية المتمدنة، والأعراف المسرحية، وبدون تمويلات ومنح مبالغ بها، لتطرح سؤالاً ملحاً، في يومنا هذا، إذا لم يكن هذا دور المسرح اليوم، فما هو دوره؟ هل يا ترى تغرد فاديا خارج سرب القطاع المسرحي بسبب خوفها من وحدتها؟ ينتهي العرض وتبقى هذه الاسئلة طافية في رؤوسنا عالقة مع صورة فاديا «المؤدية النبيلة».