
استطاع كوينتن تارانتينو (1963) بعبثية رؤيته، أن يكتب اسمه في عالم السينما، بعد فيلمه خيال رخيص (1994)، وينحو بأسلوب مؤثر على صناع السينما. فما الذي يدفعنا، اليوم، إلى مراجعة فيلم خيال رخيص Pulp Fiction، بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على عرضه الأول؟
شكّل فيلم خيال رخيص، قيم ما بعد الحداثة، في السينما. فقد مزَق السينما الكلاسيكية، وأساليب السرد السائدة، واستطاع تارنتينو أن يجمع بين الرعب من عالمه، ولإعجاب به، في آن واحد. وأن يضع لمسته التغيرية و الإبداعية، معاً، في كسر قيود الكلاكسيكية، وإضفاء أسلوبه المميز في الحوارات، وبناء الشخصيات، ودمج الموسيقى الشعبية، في صوغ عمل فني، مازال إلى يومنا هذا، على قائمة أكثر الأفلام تأثيراً في العالم. هذا لأنه كان يقدم مايحبه بطريقته الفريدة، فهو الشخص الذي يلهو ويصنع المجد معاً!
في مراجعة فيلم خيال رخيص Pulp Fiction، تدور أحداث الفيلم حول أفراد عصابات، لا وجود فيه لشرطي واحد. حيث تتشابك حياة اثنين من أفراد العصابات، مع ملاكم ورجل عصابات، وزوجته، وحبيبين يقرران السطو على المطعم، في أربع حكايا عن العنف وإنجاز المهمات.
كل ذلك يأتي في سياق يجعلنا نتسائل عن ماهية الحوارات؟ وما الهدف من بعثرة السرد البنائي الدرامي؟ للوهلة الأولى، عندما تشاهد شريط تارنتينو، تشعر أن ليس له أي معنى، أو أي مضمون، أو هدف حتى. لكن، هذا هو مراد المخرج. فالعشوائية في الفيلم، وغياب الهدف، والمضمون والقيمة، هي أكبر أداة تعبر لنا عن «العدمية»، والتي تعني أن كل شيئ فاقد لقيمته، أي ليس له معنى. وعليه، فقد بث تارنتينو العدمية الأمريكية، في فيلم خيال رخيص، انطلاقاً من أنها كانت واضحة في أواخر القرن العشرين.
إقرأ/ي أيضاً:
مراجعة فيلم Tár: عالم باطني منكسر ومتصدع
العدمية ذاتها، نراها واضحة في حوارات الشخصيات. حيث يدور ، مثلاً، حوار بين الشخصيتين الرئيستين وهما: جولز (صمويل جاكسون)، وفنسنت (جون ترافولتا)، حول اسم «البيغ ماك» و «الكوارتر باندور» وهي أنواع من مأكولات الــ «هامبرغر» في أوروبا، و «فونزي» من مسلسل «هابي دايز»، و «أرنولد» من مسلسل جرين آكرز، وفرقة موسيقى البوب في «لوك أوف سيجلز»، وغيرها… هذه الإحالات السخيفة تبدو، للوهلة الأولى، نوعاً من المتنفس، لمواجهة العنف. لكنه ليس مجرد متنفس هزلي. الفكرة هنا، هي الطريقة التي ترتبط فيها هذه الشخصيات في حياتهم، لإظهار العدمية الأمريكية، في حياة الأشخاص في أميركا، في أواخر القرن العشرين.
في سياق متصل، وفي مراجعة فيلم خيال رخيص Pulp Fiction، لا بدّ من السؤال عمّا هي الرموز التي يحملها فيلم خيال رخيص؟ في شخصية جولز الذي كان يلقي عبارته من الإنجيل العهد القديم، قبل أن يقوم بقتل أحدهم، نرى أنه يستخدم الدين لإضفاء رهبة لطريقة الموت. وفي وقت لاحق من الفيلم، يحدث موقف مفاجىء، حيث ينجو كل من جولز وفنسنت من الموت الحتمي.
بعد هذه الحادثة يطرأ تحول على شخصية (جولز) فقط، وهي الخلاص. حيث يعتبر أن ماحدث معجزة إلهية وإشارة من السماء، للتوقف عن الأعمال الإجرامية التي يرتكبها. وبالفعل في آخر الفيلم وبعد إتمام مهمته الأخيرة، نرى أنه التجأ إلى حياته الجديدة، ذات المعنى المكتسب من الحدث الآلهي- الديني.
أما فنسنت لأنه اعتقد ماحدث هو محض صدفة، فلم يكن له نصيب من الخلاص! يستهل تارنتينو شخصية بوتش (بروس ويلز) الملاكم، المحافظ على إرث عائلته، ليسخر من التاريخ الأمريكي المليئ بالحروب وإراقة الدماء، بقصة سرد الساعة المخبأة التي أعطاها الجنرال إلى بوتش الطفل، ومع هذا فإنه يستبسل لإعادتها بعد نسيانها في منزله، وكان عليه الفرار من زعيم العصابة والس.
وأثناء المطاردة يتعرضون لموقف غريب، حيث يتم احتجازهم من قبل شخصين غريبي الأطوار، ويتعرض والس للاغتصاب، بينما يخلص بوتش نفسه من القيود، والغريب هنا أنه قرر ببوتش أن يعود وينقذ والس، لكن ليس بأداة أمريكية، بل يستعين بسيف الساموراي، المعروف بما يمثله من تاريخ الشرف والبسالة. وبهذا يستحوذ فيلم خيال رخيص أبعاداً فلسفية كبيرة، كثّفها تارنتينو في فيلم، دخل المكتبة العالمية للسينما، من أوسع أبوبها.