
مع العودة المزدحمة للعروض المسرحية في فضاءات بيروت الثقافية، ومساحاتها، التي تكاد تكون غير قابلة للاحتواء والرصد، بسبب كثرتها. تطفو إشكالية النوعية، وسؤال الجمالية، على السطح، خاصة بعد انقطاع كبير. الحركة المزحمة، توحي وكأن المسرح في لبنان لم يمر عبر منعطف التهديد لوجوده. خاصةً أن حالة التأزم، مستمرة. مع بعض الاستثناءات والعروض الخارجة عن القاعدة، مابين الحين والآخر. من العروض التي كسرت هذه القاعدة، في الآونة الأخيرة، عرض «كباريه المهاجر» الذي قدمته مجموعة «كهربا»، في شهر نيسان، أبريل، 2023، على خشبة مسرح «المدينة».
كما لو أننا نقوم بحضور أحد عروض أريان منوشكين (1939)، أو يوجينو باربا (1936)، من ناحية الشكل والجماليات. ولكن عرض «كباريه المهاجر»، هو عرض لبناني محلي أصيل، بقضية تكاد تكون الأكثر صلةً بيومياتنا في مدينة بيروت، اليوم. في ظل موجات الحقد والإقصاء، تجاه اللاجئين/ات والنازحين/ات السوريين/ات في لبنان.
الكباريه المهاجر: مسار رحلة «غير شرعية»
يعتمد مؤدو هذا العرض تقنيات ومنهجيات عديدة، في أدائهم الذي نستطيع تصنيفه بأنه أقرب لتوجه جاك لوكوك (1921 – 1999)، في الواقعية الجسدية، وشعرية الحركة، والتعامل مع الفضاء، والأغراض المستعملة، في هذا العرض.
يقوم العرض على قاعدة «اللعب المكشوف». من مبدأ أن المؤدين/ات ليسوا بسحرة. وكأنهم يقولوا للجمهور: «نحن مؤدون لدينا مهارات وحكايا عديدة، وسنقوم بصناعتها ولعبها أمامكم، بدون أي يد خفية، أو إعتام على مصدر السحر». هكذا، يستمر العرض على هذا النهج، الذي يمزج مابين المسرح الملحمي والآرتوري، من بدايته لنهايته.
تبدأ الفرجة، من لحظة دخول الجمهور لقاعة المسرح. يرى الجمهور المؤديين يقومون بعمليات الإحماء. فضاء فارغ، فيه 7مؤديين، وموسيقية، وستار ذهبي في الخلفية. يستمر هذا الفعل لفترة وجيزة، ومن ثم يتطور ليصبح حركة جماعية، أشبه بفرقة رقص معاصر. بعد ذلك تبدأ لعبة «كر وفر»، أمام الجمهور، ويبدأ المؤدون بالتفاعل البصري معنا، لفترة وجيزة.
يُفتتح بعدها الاستعراض، عبر ارتداء أحد المؤديين للرداء الشبيه برداء قائد السيرك، والذي سيكون مؤشراً لكل من يرتديه بعدها، بأن دفة الاستعراض بيده. أما بالنسبة للبقية، فيخلعون ملابسهم الخارجية، ليظهروا بلباس المؤديين الاستعراضيين، ومؤدي حركات المخاطرة والبهلوانيات.
يبدأ قائد السيرك، والذي يأخذ دور الراوي في معظم فترات الاستعراض، بافتتاح العرض، عبر ترحيبه بالحضور. يقوم البقية بجر منصة متحركة، ليقف عليها في منتصف المسرح. لنحصل على شكل منصة داخل منصة، على مبدأ «المسرح داخل المسرح».
يجد المتلقون في عرض «الكباريه المهاجر»، لمجموعة «كهربا»، الصلة الوثيقة مع الجمهور المحلي، خصوصاً في بيروت، في غضون الظرف الزمني الحاضر، وما يحدث من تطورات وحملات إقليمية ومحلية، تجاه النازحين/ات واللاجئين/ات «غير الشرعيين» المتواجدين/ات على الأراضي اللبنانية.
أنس يونس
يُطلب من الجمهور ، طلبٌ غير متوقع، بإظهار هواتفهم الإلكترونية، ويشدد على ضرورة استخدامها أثناء العرض، في خطوة مغايرة عن العرف المسرحي المعتمد. في هذه اللحظة يقوم قائد الاستعراض بتحويل علامات هذا العرض، ويعكسها، بحيث يضع الجمهور بمكانة المشاركين، ضمن هذا الاستعراض، وهذه الرحلة المحفوفة في المخاطر. رحلة الهجرة غير الشرعية عن طريق مهرب راقص، يشارك مع المهاجرين رقم خفر السواحل للوجهة المقصودة.
تتوازى رحلة الاستعراض مع رحلة الموت والهجرة. تتداخل مسارات وحكايا العرض، انطلاقا من قصة إيلياهو، الفردية، والإتجار بأعضائه خلال صفقة يعقدها مع التاجر، تأخذ شكل صفقات «لوسيفر»، عبر نهب أعز الممتلكات، مقابل أعطيات صغيرة جداً، ولكنها بقيمة حياة إيلياهو، الذي يمثل الجموع المهاجرة المستضعفة والمضطهدة، المستعدة لتقديم كل ما تملك للنجاة، فمذا لو كان الثمن عضواً من أعضاء الجسد الحيوية. تتم الصفقة تحت ذريعة الرب وعطاياه للإنسان، وانطلاقاً من أن كل عضو متكرر في جسم الإنسان، يقتضي التعامل معه كرأس مال قابل للمقايضة.
تتداخل عدة مسارات وصور مع الحكاية الأساسية، وتتقاطع مع موضوعات القمع والإذلال، عبر سرد حكايا جانبية، وتبادل دور القائد، من خلال تبادل علامة اللباس، مع استراحات غنائية وموسيقية لجاك بريل أو لوي أرمسترونغ، مما يعزز التناقض بين معاني الأغنيتين المستخدمتين، ويخلق مفارقة بين المشاهد والفصول.

من الممكن أن يشعر المتلقي، في عرض «الكباريه المهاجر»، ضمن عرض شبيه بالضياع قليلاً، تحديداً على صعيد الحكاية والعناصر المدخلة والعلامات، والترميزات المستخدمة، خصوصاً بحالة استخدام أنواع متعددة من الأقنعة، لجمهور لا يملك مرجعيتها، فيفتح بابُ التأويل هذا، أسئلةً مختلفة! من الممكن أن تشوش على موضوعة العرض ومقولته، حيث ينطلق الحضور من الافتراض بأن أي تفصيل، غير الممثلين، يجب أن تكون له علامة قصدية، وأن الممثلين أيضا،ً هم حاملو العلامات المسرحية، ليتحول العرض لمجموعة من العلامات والدوال والاستفسارات، وتأتي الحكاية لخلق مدلولاتها ومرجعياتها وتركيب هذا المعنى.
جماليات معاصرة، لقضية معاصرة:
نستطيع ملاحظة إرث مجموعة «كهربا» وأدواتها المستخدمة بشكل جمالي ضمن عناصر العرض، بداية من شكله القائم على اللعب والاستعراض، وتوظيف الدمى الواقعية، والأقنعة المتعددة، مع تقنيات التهريج والبوفون، لينتج عرضٌ حيويٌ، يمزج كل هذه العناصر بصيغة متكاملة.
على صعيد العلامات والدوال المستخدمة فإن العرض يعتبر غنياً بالعناصر القابلة للترميز، وخلق مرجعيات ومدلولات. فعبر استخدام الدمى الواقعية.
استطاع العرض كسر موضوعة الموت، وتجارة الأعضاء، والتحكم بالجسد، عن طريق تغيير نظام العلامات، وسميئة الدمى (أي، تفكيك الدال)، لتحمل المدلول، وتضيف على المعنى طبقات متراكمة من القسوة. كذلك عبر استخدام أقنعة مسرح النو (هانيا، أوني) في المشاهد الدموية، التي تظهر بعد أن تتم المقايضة والصفقة مع التاجر.
أيضاً تم استخدام أقنعة إيطالية معدلة، في مشاهد قصيرة كفواصل مابين المشاهد الأدائية، التي تتم معظمها على المنصة المتنقلة. نجح المؤدون بتحويل علامات الأغراض لمدلولات جديدة، تحمل معنى سببياً ومترابطاً، مع الدوال الأساسية. مثل، تحويل أوراق الخطابات والتعليقات العالمية حول الهجرة غير الشرعية والنزوح، لقوارب ورقية، تكون رمز بداية الهجرة عبر البحر في المشهد الذي يليه.
ننتقل بين المشاهد بكل سلاسة، خصوصاً في المشاهد الأكثر عنفاً وقسوة. على سبيل المثال، مع بداية هجرة قوارب الموت يظهر الموت متمثلاً بقناع ثور أبيض، يقوم بطحن القوارب الواحد تلو الآخر.

بالنسبة للأداء وتقنيات التمثيل. اعتمدت المجموعة على التنويع في أشكاله، ولكن معظم الأنماط المختارة كانت تتسم بالغروتسك المبالغ به، عبر استخدام تقنيات التهريج بشتى أنواعه، مع الابتعاد عن الواقعية باستثناء المشهد الختامي.
هذا الخيار كان متناسقاً مع طبيعة العرض، وأغنى عملية التعامل مع الموضوعات المختارة، بشكل تهكمي مكثف، يعطي حق القضية بشكل لا يجعلها مضحكة، وإنما الأداء التهريجي هو الذي يحمل هذه القسوة ويتعامل معها بكل انسيابية.
«الكباريه المهاجر»: أسئلة الراهن حول المهاجرين/ات
على صعيد آخر. تم التعامل مع مشاهد الإتجار بالأعضاء وعملية التحويل مابين الجسد والدمية، وأخذ أعضاء من الجسد، بحيلة عبقرية، وفق مبدأ تينيسي ويليامز (1911 – 1983)، في نص «تماثيل الوحوش الزجاجية»، والذي مفاده: «أنا أعطيكم الحقيقة التي تصاغ من الوهم الرائع»، حيث يقوم المؤدون بالقيام بطقس ألعاب الخفة، عند هذه المشاهد للتخفيف من ثقل هذا الفعل.
أيضاً، تم استخدام مجموعة من العلامات الحاملة للدوال على الصورة النمطية للثقافة الشرقية من وجهة النظر الغربية. من خلال التهكم على الموروث الثقافي، بدايةً من الشكل والطقس ووصولاً للفعل، مثل مشهد التنبؤ وتوقع الغيبيات، عبر استخدام مبدأ اللعب الذي تم ذكره مسبقًا. وينتهي المشهد بشكل منطقي للتأكيد على الهدف من استخدام مجموعة العلامات المذكورة، فيتم كسر ذلك مع الجمهور والعودة لرحلة الهجرة المفترضة، من بداية العرض، وتوجيه أصابع الاتهام للمتلقيين الدخلاء على العرض، كأن العرض يحاول تحميل الحضور جزءاً من المسؤولية عما يحدث من انتهاكات وأذية ضمن مسار الهجرة «غير شرعية».
يكثف العرض جميع عناصر الاستعراض والعلامات، ويقوم بتبديل نظامها، ومن ثم إعادتها بشكل متواصل، في محاولة لخلق معنى له مرجعية ثابتة لدى المتلقيين بصورة عمومية. فما بين علامات الجسد، والأداء، والأقنعة، والدمى، والأزياء، وبين اللغة والفكر وتبديل اللغات المستخدمة مابين اللغة العربية الفصحى، والعامية، واللغة الفرنسية، مع القليل من الإنكليزية، ومابين الإيديولوجيات والمعتقدات الشرقية والغربية. يجد المتلقون في عرض «الكباريه المهاجر»، لمجموعة «كهربا»، الصلة الوثيقة مع الجمهور المحلي، خصوصاً في بيروت، في غضون الظرف الزمني الحاضر، وما يحدث من تطورات وحملات إقليمية ومحلية، تجاه النازحين/ات واللاجئين/ات «غير الشرعيين» المتواجدين/ات على الأراضي اللبنانية.
هذا العرض، الذي تم بناؤه لمساءلة النظام العالمي مزدوج المعايير، بما يخص الإنسانية، وسؤال الكرامة، وحقوق الإنسان وبلاد الأحلام، يتحول بناءً على الظرف الحالي، ليساءل الخطاب الإقصائي الحاضر. ويتحول الجمهور ليكون في موضع المساءلة. ويبقى السؤال الإنساني هو الطافي على سطح استعراض المهاجرين واللاجئين والنازحين والهاربين والداخلين، خلسة، والعالقين.