
اعتبر الكاتب والمخرج الألماني بروتلد بريخت (1898- 1956)، واحداً من أبرز المخرجين الذين ثاروا على النظم الكلاسيكية في المسرح، التي بقيت معتمدة لقرون طويلة. إذ، عكست أعماله الأحداث السياسية والإجتماعية، التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين في أوروبا بعد تعرضها لحروب دموية أطاحت بالمفاهيم الإنسانية، والأخلاقية، والدينية، وخلّفت تخبطات إنسانية، وصلت إلى حدّ العدمية، وفقدان المعنى الإنساني. بالإضافة إلى طرح تساؤلات وجودية كبيرة، عن العلاقة بين الإنسان والحتمية الكونية. في المقابل، عايش بريخت التطورات المعاصرة في مجال الفنون، والفلسفة، والأدب التي شهدتها أوروبا مطلع القرن العشرين. إذ، كان لنظريات هيجل الفلسفية، وفكر ماركس الشيوعي، تأثيرٌ واضحٌ في كتاباته. من ناحية أخرى، فإن وفاة ابنه فرانك، بعد تجنيده في الجيش الألماني، على الجبهة الروسية عام (1943)، كان له تأثير كبير. لذلك، كلّ هذه الأسباب، والظروف التي عاشها بريخت، أثمرت ما يعرف اليوم، تحت مسمى «المسرح الملحمي»، والذي يعد كسر الجدار الرابع، النواة الأولى له. وحددت خصائص المسرح المعاصر، على مستوى الشكل والمضمون في آن معاً.
المسرح الملحمي : ثورة تجديد للمفاهيم المسرحية
باتت أكثر الأعمال الفنية، تندرج ضمن إطار الحداثة وما بعد الحداثة. إذ، ساهمت هذه المفاهيم المستخدمة، في تطوير الحركة المسرحية، الناتجة عن التراكمات الثقافية السابقة، وعلاقتها بالمعايير الإنسانية والظروف الإجتماعية والسياسية على حدّ سواء.
من ضمن هذه المفاهيم المفصلية في تطوير الحركة المسرحية، مفهوم «كسر الجدار الرابع»، الذي أوجده بروتلد بريخت. إن الجدار الرابع، هو جدار وهمي يقف عائقاً بين الجمهور من جهة، وكلّ ما يجري على خشبة المسرح من أحداث، من جهة أخرى.
إن مفهوم كسر الجدار الرابع، هو كسر حالة الإيهام التي تستحوذ على عقل المتفرج،
لقد بقي الجمهور لسنوات طويلة، غير معنيّ بكل ما يحدث على الخشبة، إلاّ بهدف تحقيق التماهي المطلق، والتطهير النفسي، اللذان يجعلان الإنسان مسلماً بالقوانين الحياتية، وسطوة القدر، حسب الفكر الأرسطي. أمّا في المسرح الملحمي، قام بريخت بكسر الجدار الرابع، لإخراج المتلقي من صفة المتفرج، ليصبح مشاركاً بالحدث الذي يجري أمامه.
إن مفهوم كسر الجدار الرابع، هو كسر حالة الإيهام التي تستحوذ على عقل المتفرج، والتي تجعله مشاركاً سلبياً في الأحداث التي تجري أمامه على خشبة المسرح.
استطاع بريخت كسر هذا الجدار، عبر ابتداع أسلوب التغريب، أي تقديم الأحداث اليومية العادية، بشكل استفزازي، وتحريضي، ومثير للدهشة، وذلك بهدف دفع المشاهد لطرح الأسئلة على نفسه، والتفكير بها.
وأخيراً، يتكون المسرح الملحمي، من لوحات منفصلة لا ترتبطها الوحدات الثلاثة التي حدّدها أرسطو في كتابة الشهير «فن الشعر»، الذي أرسى الركائز الأساسية للمسرح الكلاسيكي. بعبارة أخرى، عمل بريخت على تحطيم فكرة التماهي، عبر كسر الإيهام بلوحات تحمل كلّ منها خصائص محددة، ومغايرة عن اللوحة التي تسبقها وتتبعها. وهذا ما جعله قادراً على كسر الجدار الرابع، عبر فعل التغريب، وتحطيم فكرة التماهي المطلق خارجياً. بل جعل المتفرج، مفكراً ومحللاً، لكل ما يجري أمامه، بهدف تحفيز قدراته على الوعي بنفسه وبذاته.