
اليوم، قلما نجد ممارسين/ات مسرحيين، لديه/ن مشروع فني واضح الرؤية والمعالم، خاصة، ضمن قطاع ثقافي وفني مبعثر، تغيب عنه سمة الاستقلال، ورعاية الحكومة والنقابات. حتى أن الممارات المسرحية، تكاد تكون غير مجدية، بسبب قلة عدد المشاريع، التي تسعى لتطوير هذا القطاع، وفق استراتيجية وخطة محددة. ولكن لا يخلو الأمر من تواجد عدد من الصناع المسرحيين الصامدين، في وجه هذه التحديات والتغيرات المتواصلة، الذين يعتبروا أنفسهم مسؤولين، عن تحديد مسار هذا القطاع، ويسعون لتطوير الشكل المسرحي بشكل مستمر. يأتي العرض المسرحي «لماذا لست محظوظاً»، كمشروع تغييري لصانع مسرحي، لديه مسيرة لا تقل عن العشرين عاماً، في قطاع فنون الأداء.
يقدم عبد الرحيم عوجي عرضاً حكواتياً ميثولوجياً منفرداً، تحت عنوان «لماذا لست محظوظاً لعشرات المرات، وفي فضاءات مختلفة بين مسرح «لبن» في عام 2022 ومن ثم انتقل لعدة مسارح مثل «دوار شمس»، «المدينة»، و «مونو»، ومازال يوزّع لليوم، على مسارح وفضاءات بيروت.
لطالما ارتبط إسم عبد الرحيم العوجي، بالكوميديا والبرامج السياسية الساخرة، وعددٍ ليس بقليل من الأدوار الدرامية، ولكن من يعرف عبد الرحيم يستطيع القول بأن ما يقدمه على الشاشة هو شيء مختلف تماماً عما يقدمه على خشبة المسرح. فنرى عبد الرحيم يكتب ويؤلف ويرتجل ويقرأ ويؤدي، بشكل مختلف عما ارتبط في ذاكرتنا حوله. حيث تعطيه الخشبة وحقل فنون الأداء، مكانه، الذي سلبته أياها أدواره وتهكمه على الشاشة. في هذا العرض، نحن هنا أمام مؤدٍ قدم عروضاً مسرحيةً، على أهم المسارح العالمية، وكتب العديد من النصوص التي ترجمت للغات عديدة، لديه تراكم من رأس المال الرمزي والثقافي في هذا الحقل، يتم التشويش عليه، من خلال صورتنا النمطية حول برامجه السياسية الساخرة، كـ «شي إن إن» و «بي بي شي»، التي قدمت على قنوات تلفزيونية لبنانية عديدة.
وجب التنويه لخلفية عبد الرحيم ضمن هذه المراجعة، لأهميتها، ضمن سياق حديثنا عن عرضه الحالي، الذي يحمل كل الخصوصية والصلة بماضيه وحاضره ومستقبله. يبدأ عبد الرحيم، العرض، بكل عفوية وبساطة، عبر التهكم على نفسه وتفاجأه من حضور الجمهور، لنوعية عرض مشابه، عنوانه ليس مشجعاً بالنسبة لهم، ومن هنا تبدأ رحلة العرض بالحظ التعيس والتصاقه بتاريخ عبد الرحيم، الذي لم ينفك أن يستسلم للموضوعة بطرحه. بل، حاول تفكيكها وتحليل هذا الرابط وتتبعه زمنياً، ليرى إن كان ما يحدث معه، هو أمر خاص وفردي، أم عام وجماعي.
لماذا برج الجدي ليس محظوظاً!
بداية من البحث في برجه الشمسي وسرد حكاية ساتورن وكرونوس، وعلاقته بمواليد هذا البرج، إلى أسطورة خيوس وأولاده غايا وأورانوس، وبداية الخلق مابين الطياطنة والسيكولوبس، وصولاً لبداية حكم كرونوس وانقلابه على أورانوس، وولادة رب الأرباب زيوس، ونجاته من بطش كرونوس، ونفيه له في السماء وظهور اللعنة الأولى المتعلقة بمواليد برج «الجدي». هكذا فسر عبد الرحيم لعنته، حسب الأساطير الإغريقية والأبراج الشمسية على طريقة عالمة الفلك الشهيرة، «ماغي فرح».
يواصل عبد الرحيم الحديث عن مواصفات هذا البرج، وعن صفات مواليده الاجتماعية وسلوكياتهم، وعن أصل تحديد حيوان الجدي لهذا البرج، العائدة لشكل بريكوس مساعد كرونوس، والذي كان عبارة عن مخلوق مزيج مابين الماعز والسمك، وهذا ما يعطي مواليده طباعاً متناقدة، غير قابلة للتحديد والحصر.

يقفز عبدالرحيم لتفسير انعدام حظ هذا البرج من مرجع حضارة السومريين، ومروره على إنكي، حامي البشر، وأسطورة الخلق السومرية والإله إنليل، وما تلاها من عقاب منزل، على شكل أوبئة ومجاعات وفيضانات، وصولاً للفيضان الكبير، والفلك المنقذ للكائنات وطقس ذبح الجدي، احتفالاً بالوصول لليابسة. من هنا استطاع عبد الرحيم ربط قلة حظه، بالنسبة للمرجعية السومرية، وعلاقته مع الإله إنكي، الذي يمثل الجدي، وقلقه الوجودي، وكيف انتقل هذا الحزن والقلق لجميع مواليد هذا البرج.
رؤية ميثولوجية، ضمن عرض حكواتي مبسط:
ناقش عبد الرحيم في عرضه «لماذا لست محظوظاً»، مرجعية برج الجدي من وجهة نظر الديانة المسيحية وتاريخ ميلاد يسوع المسيح، وارتباط آلامه ومعاناته، نسبة لبرجه الشمسي. وتطرق لنفس القصة من وجهة الديانة الإسلامية، حيث شرح عبد الرحيم الموضوعة بكل دقة، وبنفس طريقة التعامل مع الأساطير الإغريقية والسومرية. ويعتبر هذا التشريح فريداً من نوعه، نسبةً لحساسية الطرح وعدم استساغة نقاش هذه النقاط الجدلية، بكل سلاسة، ضمن سياق يعج بالحقد والشيطنة للآخر. لكن، استطاع عبد الرحيم طرح الموضوعة الجدلية بكل خفة وسلاسة، كأنه مازال يتحدث عن أسطورة كرونوس وبان، وهذا ما أضاف بعداً جمالياً للعرض، حيث استطاع تشريح نصوص مقدسة ومسرحتها بطريقة ميثولوجية سردية مثيرة لاهتمام جميع المتلقين، بغض النظر عن خلفياتهم الإيديولوجية.
استطاع عبد الرحيم طرح الموضوعة الجدلية بكل خفة وسلاسة… وهذا ما أضاف بعداً جمالياً للعرض،
أنس، يونس
بالإضافة للعبه على المستوى الشخصي واليومي، بداية من قصة أبيه مع هذا البرج وانتقال سوء الحظ له مع نفس البرج بالوراثة، يخوص عبد الرحيم العوجي، مكاشفةً تنم عن شجاعة الطرح وكيفية كشف تفاصيل معاشة يومياً، وعلاقته مع الحب والمدينة والاستقرار والظروف الاقتصادية، عبر قول ما نخجل جميعاً من الاعتراف به، ووضعه على الخشبة بكل صدق. ليختم بقلب الجدلية التي بدأ بها العرض من خلال نقده لتبرير البرج وتأثيره على يومياته وسلوكياته، والتهكم على هذا المبدأ المطلق، وإرجاع جميع أسباب تعاسته لشخصه وتصرفاته بدون أي مسبب خارجي.
يعتبر عرض «لماذا لست محظوظاً» من العروض النادرة التي لامست موضوعة الأسطورة التاريخية، وربطها مع يومياتنا في ظل زمن لا وجود فيه للأسطورة والخرافة، ولا دور لها في حياتنا، والتنويه للموروث الثقافي العربي والمحلي، بلغة مبسطة يستطيع استساغتها كل من يسمعها وهذا ما يميز شكل العرض، عبر تطوير مفهوم الحكواتي العربي الأصل، وجعله متقارباً مع حاجات الناس واهتماماتها، اليوم.