سينماكلاسيكيات

فيلم لا لا لاند: لنستذكر الرومانسية الموجعة

ماذا لو لم يحدث كل ما مررت به وعشته من قبل؟ ماذا لو بدلت خياراتك السابقة في الحياة؟ ماذا كان سيحصل لو حافظت على مسار حياتك الذي رسمته في الماضي؟ مثلُ هذه الأسئلة، قد يفوتُ للإنسان التفكيرُ بها، في خضم الحياة وروتينها اليومي. لكن فيلم لا لا لاند “La La Land”  يقدم طروحات في هذا الإطار. في هذا الفيلم، نحن أمام أسئلة مكثفة على المستوى العاطفي والفكري والغرائزي، تُجسد في مشهدية أقرب إلى الخيال، قوامها عناصر: الرقص، والغناء التمثيلي، والموسيقى التصويرية، والأزياء، وديكورات هولييود… عناصر سينوغرافية شكلت  “لا لا لاند” ذات خصوصية، لبطلي الفيلم سيباستيان وميا. الفيلم الذي حصد ست جوائز أوسكار، كما حصد 237 جائزة أخرى، من أصل 288 ترشيحاً، تدور أحداثه حول عازف البيانو سيباستيان راين غوسلينغ ، وممثلة المسرح إيما إيما ستون، اللذان يقرران أن يمضيا حياتهما سوياً في لوس أنجلوس. فيما يلي نقدم مراجعة لا لا .لاند، فيلم الرومانسية الموجعة، من تأليف وإخراج داميان تشارلز

حبكة فيلم لا لا لاند:

سيباستيان ذو ميول راديكالية في الفن، هدفه الأسمى، الحفاظ على تاريخ موسيقى الجاز -التي كانت لغة تواصل بين مجموعة من الأشخاص الذين لا يفقهون لغة بعضهم، بحسب ما يؤكد سيباستيان في أول لقاء له مع إيما، التي تعمل في مقهى، وتحاول دوماً أن تخضع لتجارب أداء- كاستينغ، علها تحظى بدور في أفلام هوليود، لكنها تبوء بالفشل دوماً، فتقرر أن تقوم بإخراج مسرحية خاصة بها.

هذان الصراعان داخلهما، شكلا محور بناء شخصية كل منهما، ليأتي من بعدها قرار مساندة بعضهما البعض، ليحقق كل منهما حلمه. إلا أن تحقيق حلم كل منهما على حدى، يحول دون الإستمرار مع بعضهما البعض. فهو بات منهكاً في الجولات الفنية مع الفرقة التي يعمل لديها، وإيما تتلقى عرضاً من إحدى أهم المخرجات لتصوير فيلم في باريس.

الفيلم كان مزيجَ عملٍ متكاملاً بين الكاتب والمخرج والممثلين، كلٌ سخر قدراتِه وتجاربه في الحب والحياة، خدمةً لهذا الفيلم.

قد يكون ذلك في إطار الكليشيهات السينمائية: اثنان قرارا أن يمضيا حياتهما مع بعضهما البعض، لكن ظروف الحياة تحول دون ذلك، يفترقا، ويمضي كل منهما في سبيله… لكن، العصارة الفكرية التي قدمها السيناريست، وصورها المخرج في نهاية الفيلم في إطار “فلاش باك” خيالي، يُخرج الفيلم من إطار النمط الكلاسيكي. البطلان يلتقيان بالصدفة في حانة سيباستيان بعد خمسة أعوام من الفراق، أعادت لكليهما التفكير ضمن شريط خيالي مصور، يطرح للمشاهد السؤال المحوري للفيلم: ماذا لو لم نفترق؟ هل كنا سنعيش هذه الحياة التي نعيشها الآن؟ ماذا لو بدلنا خياراتنا في هذه الحياة وقررنا أن نكمل سوياً؟ ما الذي حال دون أن نكمل حياتنا أصلاً؟

إبداع سينمائي متكامل:

يُصنف أداء الممثلين في فيلم لا لا لاند، في خانة الإبداع الفني، الملامح جسدت الأفكار والعواطف لكل شخصية، ربما عمل الممثلون على تمارين الذاكرة الإنفعالية التي كرسها المسرحي الروسي كوستانتين ستانيسلافسكي للوصول إلى الصدق والإبداع. فكانا ممثلين رشيقين يرقصان، يجعلان من الأرض تحتهما أرضاً خصبة للأحلام.

تضافرت كل العوامل السينوغرافية لتكريس تطور الأحداث والشخصيات. الأزياء في خدمة تطور الشخصية، من البساطة والألوان الصيفية والفرح والحب، وصولاً إلى الفساتين السوداء التي جعلت من إيما ممثلة مشهورة، تعيش حياة الرفاهية، ولديها ابنة وزوج ثري. والبدلات الرسمية التي جعلت من سيباستيان عازف بيانو مشهور، يملك حانةً لعزف الجاز الكلاسيكي.

لا يمكنك تخطي الحديث عن موسيقى البيانو -من تأليف Pyotr Ilyich Tchaikovsky، وقامت بأدائها الأوركسترا اليابانية في طوكيو، حيث شكلت محور فيلم لا لا لاند،  ذلك أن أول ما استوقف إيما في سيباستيان هو العزف، كانت تائهة في أزقة المدينة بعد ليلة صاخبة قضتها مع صديقاتها، وبينما كانت عائدة إلى منزلها في إحدى ليالي عيد الميلاد، وجدت في العزف شيئاً كانت تبحث عنه، هكذا كان أول لقاء. وعادت موسيقى البيانو لتجمعهما بعد سنوات من الفراق، فحملت الموسيقى الكثير من المشاعر والعواطف، مثلها، مثل الكثير من الحوارات التي ترد في هذا الفيلم وتستوقفك.

ابتعد مخرج الفيلم Damien Chazelle، عن الإبتذال في تجسيد الحب بين إيما وسيباستيان. صور ذروة العلاقة العاطفية في مشهدية يقتربان فيها من السماء، ويلمسان الكواكب، إنها جوهر العلاقة العاطفية بين أي حبيبين.

كيف يمكن للحب أن يكون قاسياً وحلواً إلى هذا الحد؟ كيف يمكن للحياة أن تحمل كثيراً من اللحظات المرهفة والقاسية في نفس الوقت؟ كيف يمكن للفصول أن تنفث رائحتها على قلب من يحب؟ كل هذه التقلبات حملها الفيلم في نفس الوقت. حمل كل تناقضات الحياة، في مشهدية سينمائية متكاملة من ناحية زوايا الكادرات، والألوان المتقلبة كالفصول التي جسدها المخرج في الإخراج، والموسيقى التي تتناغم مع ما يدور داخل النفس البشرية.  

الفيلم كان مزيجَ عملٍ متكاملاً بين الكاتب والمخرج والممثلين، كلٌ سخر قدراتِه وتجاربه في الحب والحياة، خدمةً لهذا الفيلم. من ورق السيناريو، مروراً بالسينوغرافيا، وعدسة المخرج، وصولاً إلى أحاسيس الممثلين الصادقة، أتى العمل خالصاً وعضوياً، يجسد أحلام كلٍ منا والتي نسعى لتحقيقها في هذه الحياة. لكن، هل يمكن للإنسان أن يصل إلى ما يريد من دون التخلي؟ أسئلة وجودية يقدمها الفيلم، وتجعل منه تحفة سينمائية نستذكرها ولو بعد حين.

رومانسية تضعك أمام أسئلة لطالما حاولت الهروب منها. الفيلم يضعك أمام حقيقتك العجفة، أين أنت من الـ “لا لا لاند” خاصتك؟ وما الأشياء التي عليك التخلي عنها، لتصل إلى مرادك. سؤال قاسٍ يطرحه محتوى الحبكة. من هنا تأتي قوة الفيلم التي تجعله يغرد خارج سرب الأفلام الرومانسية الباهتة، ويضعه في مصاف الأفلام التي تعيد من خلالها ترتيب أوراق حياتك.

خليل الحاج علي

صحافي متخصص في الشأن الثقافي، حاصل على دراسات عليا في المسرح والفنون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى