مسرح

مسرحية «المعلقتان» من الذاكرة

لا تخلو الأعمال المسرحية الكلاسيكية من الحبكة الدرامية والشخصية المسرحية، مما يحقق المتعة لدى المتفرج. أما في المسرح المعاصر، تسير الأمور عكس ذلك، فتغيب الحبكة عن العمل المسرحي، ويجسد الممثل أفكاراً أو فلسفةً أو نقداً معيناً. في إطار الكتابة حول مسرحية «المعلقتان» من الذاكرة، يمكن القول بأن المخرجة اللبنانية لينا عسيران تمزج بين المسرح الكلاسيكي والمسرح المعاصر. في هذا العمل المسرحي، نترافق مع قصة إمرأتين معلقتين في مصعد كهربائي، وتُستحضر أمام الجمهور أفكارٌ حول العدمية وتساؤلات حول مصير الإنسان، مما يجعل المسرحية تأتي في إطار مشوق يمزج بين السرد المسرحي، والعبث. مسرحية «المعلقتان» من الذاكرة نستحضرها ضمن مبادرة مدونة ماكيت «ذاكرة المسرح» بهدف توثيق الأعمال المسرحية في لبنان والعالم العربي.

بطاقة تعريفية لمسرحية «المعلقتان» :

إخراج وسينوغرافيا: لينا عسيران

تمثيل: يارا زخور، سارة عبدو،  جلال الشعار ، وطوني فرح.

كتابة وأشعار: حسن مخزوم.

إضاءة: هاغوب ديرغورسيان.

موسيقى: علي الصباح.

تاريخ وزمان العروض المسرحية: مسرح مونو، 2019.

تصوير فوتوغرافي: ليال عقيقي. تجدر الإشارة إلى أن الصور في هذه المدوّنة، تم التقاطها في مسرح المدينة، ضمن مشاركة المسرحية في مهرجان المسرح الوطني اللبناني في دورته الثانية، حيث حصلت المعلقتان على الجوائز التالية: أفضل نص، أفضل سينوغرافيا، وأفضل موسيقى ومؤثرات صوتية.

إنتاج: Collectif de L’Act.

من مسرحية «المعلقتان»
لمحة عن المسرحية:

مسرحية «المعلقتان»، هي كوميديا سوداء، تتشكل من خليط بين العبثية والواقعية، وتمزج لغة التهكم مع مفاهيم فلسفية، وجمالية الشعر.

تتجسد المسرحية في فضاء تنتفي فيه شروط الواقعية. إمرأتان- تجهل كل واحدة منهما للأخرى، تتفاعلان مع بعضهما البعض بعد أن علقتا في مصعد كهربائي. الإمرأتان المحبوستان داخل المصعد، معلقتان في فترة ضبابية من حياتهما السيكولوجية، مما يضفي على  التفاعلات والتصرفات والحوارات سياقاً مشحوناً.

تواجهان أثناء الانتظار العبثي، تساؤلات عن معنى وجدوى الوجود، وعناد القدر أمام رغبتيهما الخاصة. فمهما وضع الإنسان من خطط، يفرض الواقع نفسه ويعيق تنفيذها. يزيد الواقع الخناق على الإنسان ويجعله خارج نطاق السيطرة على الأمور وخارج الإرادة. يأتي كل ذلك في سياق يندرج من الواقعية الهزلية إلى السريالية.

تتشعب المسرحية في طرح المفاهيم الفلسفية، لكنها تبقى ضمن المسارات التي تحاكي السيطرة، ونزعة القوة، والتحكم بالآخر. 

لقطة من مسرحية المعلقتان
دوافع العمل:

مع بداية بلورة الأفكار وتكوينها، انصبت جهود كل من كاتب ومخرجة مسرحية «المعلقتان»، لحشد الجمهور تحت مظلة مفاهيم المسرح العبثي. مع إضافة عناصر الحبكة المسرحية، ليطالا أكبر شريحة من الجمهور. لذلك كان التركيز على تجسيد أفكار فلسفية وعبثية تحمل العمق للجمهور، وفي الوقت نفسه، تحقق المتعة لدى كل الشرائح الجماهيرية. تعد مسرحية «المعلقتان»، التجربة المسرحية الأولى للكاتب حسن مخزوم الذي عاش ودرس القانون في فرنسا. جسد مخزوم الأفكار التي اكتسبها من الفلاسفة الفرنسيين والكتاب المسرحيين في نص المسرحية هذه. وكان العمل بين مخزوم وعسيران قد بدأ ضمن خطين متوازيين: الكتابة على الورق والتصور الإخراجي. فأتى النص المسرحي محبكاً، مع إخراج متقن.

الحبكة والشخصيات:

الشخصيتان في مسرحية «المعلقتان»، تحملان أفكاراً عدمية. في بعض الأحيان، تسير الحبكة في أسلوب قصصي وسردي، وتتوقف فجأة لتأخذ منحىً عبثياً. لا حبكة في هذه المسرحية بمفهومها الأرسطي أي (بداية، عقدة، نهاية). خاصة أن الشخصيات غير واقعية. لذا، تم دمج أسلوبين مختلفين من السرد القصصي وأسلوب المسرح المعاصر.

الشخصيتان لا اسم لهما، (تمثيل: يارا زخور وسارة عبدو) تعلقان في المصعد بعد أن كانت إحداهن  متجهة الى تجربة أداء تمثيلي عن دور إحدى الشواعر اللواتي انتحرن. أثناء توجهها، يتوقف المصعد عن العمل، وتكتشف أنها برفقة شخصية أخرى عالقة منذ زمن طويل فيه. يتدخل العامل التقني لحل المشكلة في المصعد، ويخرق الأجواء بين الحين والآخر.

تجسد الشخصيتان مفهومين متناقضين من البشر. تتداخل العلاقات بينهما، وتأخذ منحنيات متعددة ومتطرفة. أتي ذلك في محاولة لتشريح نمطين مختلفين من البشر، من دون توجيه أي إدانة أو نقد معين، لأي شخصية منهما وما تمثله من معتقدات.

كل واحدة من الشخصيتين ترى الحياة من منظورها. تدافع عن نفسها لتعيش وتستمر، وتحقق غريزة البقاء. واحدة تريد الاستمرار في أن تعلق بالمصعد مدى الحياة، بينما الأخرى تريد أن تكمل حياتها داخله.

الحوارات تأخذ صيغة المناجاة، ليتبين التناقض على أوجه، مما يولد تساؤلات عن قدرة الإنسان على البقاء ومقومات الصمود لديه، وإمكانياته للإستمرار.

الشخصيتان (أ) و (ب)، كان من الممكن أن تكونا شخصية واحدة. لكنهما تعكسان تناقضات الإنسان الداخلية، لتجسيد الصراع الشخصي والسيكولوجي للإنسان نفسه، وليس صراع شخصيتيتن. تخرج الشخصية من إطارها المكاني الزماني لتكون كونية، حيث يمكن التماهي أحياناً مع (أ) و أحياناً مع (ب).

الإخراج والسينوغرافيا:

يتوسط خشبة المسرح قفص من الحديد. تخرج هذه القطعة السينوغرافية من «الزمكان» المألوف لها. رغم أنها تمثل المصعد بالدرجة الأولى، لكنها قد تتحول إلى سجن للذات، أو تابوت يجسد الموت باعتباره عقاباً لخسارة النفس أو خسارة الآخرين. وهكذا تمت أنسنة السينوغرافيا، ليتحول المصعد إلى شخصية مسرحية، لديها صوت ومؤثرات سمعية، وتتحرك، مثلها مثل أي شخصية أخرى.

لا يجسد الفضاء المسرحي مكاناً واحداً، وإنما يجسد أمكنة متعددة، يرافق الشخصية حيث تذهب، إن بخيالاتها أو أفكارها.

إلى جانب العنصر السينوغرافي الأبرز على خشبة المسرح (المصعد)، برز عنصر الموسيقى، والمؤثرات الصوتية، الذي تم العمل عليه مع الفنان علي الصباح.

كان للشعر دور بارز أيضاً في «المعلقتان»، باعتباره يمثل السلوان والأحلام. يحقق الشعر ما تعجز عن تحقيقه الشخصية في الواقع، كالحب مثلاً. كذلك تمت الإستعانة بنصوص شعرية، لشواعر انتحرن كـ: فرجينيا وولف، مارينا بلاس وغيرهن. أتى ذلك في إطار الحبكة التي تنص على أن الشخصية، حفظت الأشعار لتؤديها في تجربة الأداء التي كانت متجهة إليها.

مسرحية «المعلقتان» من الذاكرة

أما عامل التصليح الذي يظهر تباعاً في المسرحية، كان مثالاً عن سيطرة التكنولوجيا وترويضها الإنسان الذي تم وضعه داخل قفص يصعب تجاوزه. كما كان مثالاً واضحاً لفعل التحكم الذي تمارسه السلطات على شعوبها، ومدى عجزها على السيطرة على الأعطال.

الأبعاد السياسية والفكرية للمسرحية: 

تطرح المسرحية عدداً من المفاهيم الفلسفية والوجودية والعدمية على مستوى الفرد في المجتمع (الذل الذي يتعرض له)، وعلى مستوى الإنسان  في هذا الكون (حبس النفس الداخلية). كما يقوم العمل على أفكار مستوحاة من فلاسفة عدميين، كإميل سيوران، الذي يشير إلى أن الإنسان لا قيمة له، ومصيره الزوال.

جدير بالذكر، أن المسرحية لا تقدم أي اجابات، ولا تتبنى أي وجهة نظر، بل تكتفي بطرح التساؤلات، وبثها أمام الحضور. فتضع المشاهد أمام عبثية المواقف التي قد تحصل معه، مما يخلق فكاهة كانت واضحة للملئ.

مسرحية «المعلقتان» من الذاكرة، والتي من المهم تسليط الضوء عليها، كونها شكلت علامة فارقة على مستوى المشهد المسرحي اللبناني، وعبرت حدود الأعمال الكلاسيكية، لتأتي مثالاً حياً عن الطاقات والقدرات المكثفة، التي يتمتع بها الجيل المسرحي الجديد.


تعرّف على لينا عسيران

بعد استحضار مسرحية «المعلقتان» من الذاكرة، نسلط الضوء على مخرجة العمل. بدأت لينا العمل في المسرح المجتمعي، تحديداً مع جمعيات إنسانية واجتماعية، فنظمت ورشات وتدريبات مسرحية للأطفال والمراهقين.

حائزة على ماجستير في المسرح وماجستير في الهندسة المعمارية. انطلاقاً من دراستها للاختصاصين، وخلال رحلتها الأكاديمية، بحثت لينا عن قدرة الفضاءات والأمكنة على تجسيد أحاسيس الإنسان. شغلها الشاغل، هو البحث عن كيفية دمج الهندسة والمسرح في الوقت ذاته، وعن الفضاء الذي يحتويه الممثل في داخله. في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، تعمقت لينا في دراسة مواد الإخراج المسرحي والتعبير الجسماني والرقص المعاصر.

حاصلة على جوائز في الهندسة المعمارية و المسرح، أبرزها من نقابة المهندسين والمعماريين في بيروت. خلال دراستها الجامعية، ابتدعت العمل المسرحي: «Purgatory»  أو «المطهر». هذا العرض هو تقاطع ما بين الجسد، المشاعر، والتجربة الجمالية في المساحة.

في العام 2018، اقتبست وأخرجت «ماكينة هاملت»، وهي مسرحية لهاينر موللر، وفازت وقتها بمنحة من برنامج زقاق للإرشاد المسرحي. حالياً، تتم استضافة لينا  كمحاضرة زائرة في الجامعات اللبنانية عبر الأونلاين.

تتابع عسيران دراستها وبحثها في فرنسا حيث تقيم منذ العام ٢٠١٩. ينصب اهتمامها في مواضيع تتعلق بالإخراج المسرحي ودراماتورجيا العروض الإنغماسية في المسرح المعاصر وإستخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، كأدوات للتعبير والإخراج. كل ذلك باعتبار أن الجسد هو محور اتصالنا بالعالم. انطلاقاً من هذا الطرح، تسعى لينا لفهم التجارب المسرحية والأدائية من خلال نظريات التجسيد.

تحضر عسيران لعملها الجديد بعنوان «Unites de Souffle» وهو عرض تفاعلي يرتكز على الذكاء الاصطناعي تقوم بتحضيره مع مجموعة من الباحثين والفنانين بين لبنان وفرنسا.

يمكنكم متابعة لينا عسيران عبر مونتها الخاصة:

https://www.lenaosseyran.com/

 

خليل الحاج علي

صحافي متخصص في الشأن الثقافي، حاصل على دراسات عليا في المسرح والفنون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى