دراساتمسرح

مسرح العبث، بين المأساة والسياسة: دراسة موجزة لنشوئه وتطوره، بين أوروبا الغربية والشرقية

عندما أطلق الفيلسوف الألماني فريديرك نيتشه مقولته الشهيرة: «مات الإله… ونحن من قتلناه»، كانت أوروبا تشهد عصراً من «الحداثة» لم يسبق له مثيل. مع مطلع القرن العشرين، طالت هذه «الحداثة» الجوانب المادية، مع إغفال تام، للجوانب الروحية والإنسانية. في حينها، بدأت الأسئلة مع بداية القرن العشرين، تتمحور حول إبقاء التوازن بين ديمقراطية علمانية، ومفاهيم دينية غير مسيسة. إلاّ أنه ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، شهدت أوروبا تراجعاً كبيراً لطريق التحديث الطويل، الذي خاضته منذ القرن السابع عشر، وحتى منتصف القرن التاسع عشر.

لقد أدّت المتغيرات السياسية التي طالت أوروبا بين الحرب العالمية الأولى والثانية، إلى وضع المفكرين في حيرة تجلّت في طرح الأسئلة، والتي دخلت بدورها في عمق الشعور الإنساني، وعلاقته بالكون. بعبارة أخرى، صارت الأسئلة على هذا الشكل: كيف يمكن أن يتسبب تطور العلم والتكنولوجيا، إلى إحداث قدر أكبر من الدمار، والخراب، واللاجدوى الإنساني؟

مسرح العبث واللامعقول، تسميات أطلقت على تيار مسرحي، ظهرت بذوره بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتبلورت قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية. لقد كان نتاجاً طبيعياً، لظروف وانعكاسات، طالت أوروبا، وحفزت الفلاسفة والفنانين إلى إعادة التفكير في مرجعية الثوابت. لم يقتصر جوهر مسرح العبث على المتغيرات السياسية، وحسب. بل، شمل مفاهيم جديدة، تجسدت عبر التمرّد على الأطر الكلاسيكية التي كانت معتمدة، سابقاً، في الأعمال الفنية.

إلى جانب أهمية مسرح العبث في إحداث تغيرات كثيرة، في شكل المسرح ومضمونه، بالإضافة إلى أساليب التلقي، لم يكن لهذا التيار حركة منظمة تعتمد القواعد نفسها. وكما هو معروف، فقد راج مصطلح  «الباتافيزيقيا»، في ذلك الحين، الذي يحمل عنوان نظرية، أصبحت من أكثر النظريات غرابة في أوروبا الغربية، وبعيدة عن المألوف، والتي كان أبرز روادها الكاتب الفرنسي الروماني، يوجين يونسكو. اعتمدت هذه النظرية على المساواة بين المفاهيم المجرّدة والمطلقة. أي بين العلم واللاعلم، المنطق واللامنطق، الزمان واللازمان…

التعامل مع مسرح العبث بين الأوروبيتين:

على الرغم من أن الكتاب المسرحيين الذين ارتبطوا بتيار العبث، لم يشكلوا حركة منظمة. إلاّ أنه يمكن للمتلقي استقراء معايير محددة، للمسرحيات التي اندرجت تحت اسم مسرح العبث واللامعقول:

  • الأفعال آلية.
  •  التواصل شبه منعدم.
  •  فقدان جوهر اللغة.
  •  البنية الدائرية.
  •  بالإضافة إلى اللاجدوى الإنساني وغياب الحلّ.

لقد تمّ التعامل في البداية مع مسرح العبث على أنه ظاهرة أوروبية غربية، إلاّ أنه ظهر بشكل كبير في أوروبا الشرقية، وتحديداً في بولندا.

في السياق عينه، يذكر المنظر الروسي أندريه أمالريك: «لقد تمّ استخدام العبث كأسلوب يجسّد، وبعمق، عملية النزاع الإنساني في المجتمعات الإشتراكية».

في المقابل، لقد ارتكز المسرح الغربي على أفكار الفيلسوف والكاتب الفرنسي، ألبير كامو ، رائد المدرسة الوجودية، التي عززت بدورها الإنشغال الدائم بالماورئيات أي «الميتافيزيقيا». إلاّ أن هذا الأمر اختلف اختلافاً جذرياً، في الدول التي كانت تعتمد المبادئ والأسس الشيوعية والإشتراكية. فبينما يهدم يوجين يونسكو، محتوى اللغة ومعناها في مسرحياته، يعتقد الكتاب في أوروبا الشرقية، أن استخدام اللغة بمعناها الجوهري، يجسّد عبثية الحياة التي يعيشها الإنسان في ظلّ هذه الأنظمة القمعية.

«لقد سجّل مسرح العبث في أوروبا الغربية، عبثية الوجود البشري كشرط ثابت، وهذا ناتج بالطبع عن التفكك المستمر للرأسمالية».

من ناحية أخرى، يختلف منحى التأثير على الجماهير المعنية أيضاً. فأوروبا الغربية بقيت سنوات طويلة، تحارب سلطة الكنيسة. ولهذا، باستطاعتها الغوص في معنى الوجود وعلاقة الإنسان بالكون. أمّا في أوروبا الشرقية، ما زال الفرد يعيش في دوامة الأنظمة وعلاقته بالسلطة. ولهذا فقد أيقن كتاب أوروبا الشرقية أن عبثية الحياة، ليست ناتجة فقط عن العلاقة الوجودية والمعنى الإنساني، وإنّما نتيجة النظام القمعي.

تاريخ أوروبا الشرقية السياسي: بين الحرب العالمية الأولى والثانية

ارتبط ظهور مسرح العبث واللامعقول، في أوروبا الشرقية، بفترة الإسترخاء النسبي. أي، بعد وفاة ستالين عام 1953. ففي العقد الأول بعد استيلاء الشيوعية على مقاليد الحكم، كان شبه مستحيل على أي كان، أن يطرح أي فكرة، ولو من بعيد، عن تجربته الشخصية وحياته اليومية، دون تعريض سلامته للخطر. فقد كانت الفنون شأنها شأن المجالات الحياتية الأخرى، خاضعة لرقابة سياسية صارمة، عكس أوروبا الغربية التي كانت قد تحررت من كنف الأنظمة القمعية.

 لقد تمّ حظر جميع التطورات الفكرية التي طالت أوروبا الغربية، في الفترة الممتدة بين الحرب العالمية الأولى والثانية، باعتبارها انحطاطاً برجوازياً. لكن، وبعد وفاة الطاغية ستالين، بدأ مسرح العبث يدخل إلى أوروبا الشرقية بشكل تدريجي، حتى عام 1963، بعد أن كان محصوراً في دولتين فقط هما بولندا وتشيكوسلوفاكيا.

مما لا شك فيه أن مسرح العبث واللامعقول في أوروبا الشرقية استوحي من أوروبا الغربية، لكنه اختلف كثيراً ، في الشكل والمضمون. فقد اعتبرت المسرحيات العبثية في أوروبا الغربية، عدمية ومعادية للواقع،  خاصة بعد أن هاجم كينيث تاينان، أحد أشهر النقاد المسرحيين البريطانيين، في القرن العشرين، ليوجين يونسكو، معتبراً إياه معادياً للواقع الإنساني وليس العكس.

العبث المأساوي أم العبث السياسي؟

لقد نظر الفنانون والمنظرون في أوروبا الشرقية، على أن ضعف الإنسان وقصوره، يتعلّق وبشكل مباشر بالأنظمة الإستبدادية، وليس بالميتافيزيقيا.

كذلك، لقد اعتقدوا، وبيقين تام، أن الجهود البشرية المخلصة والمتضافرة، ستتمكن على المدى الطويل من تصحيح جميع التراكمات المأساوية التي أنتجت هذه العبثية الحياتية. وهذا ما يتنافى تماماً مع مفهوم اللاجدوى الإنساني، الذي عنونته نظريات أوروبا الغربية والكلية الباتافيزيقية. فعندما جسّدت مسرحيات أوروبا الغربية نظرة متشائمة وسوداوية عن حياة الإنسان على هذه الأرض، سعت مسرحيات أوروبا الشرقية إلى تشكيل نقد بنّاء.

السياق الإجتماعي للعبث في الشطر الغربي بدا خافتاً، أقرب إلى التنظير، أمّا في الشطر الشرقي كان ملموسا، واضحاً، وواقعياً.

ضمن الإطار المذكور، لقد كانت حجة الماركسيين الإصلاحيين، المؤيدين لليبرالية في تشيكوسلوفاكيا، على النحو التالي: «لقد سجّل مسرح العبث في أوروبا الغربية، عبثية الوجود البشري كشرط ثابت، وهذا ناتج بالطبع عن التفكك المستمر للرأسمالية».

لم يكن للمسرحيات الغربية، في تلك الآونة، أي صلة بمسرحيات أوروبا الشرقية، حيث كان المجتمع التابع للأنظمة الإشتراكية في سعي دائم، لإيجاد الأجوبة المتعلقة بسلوك الفرد وعلاقته بمعنى الحياة بشكل خاص عام.

وأخيراً، يمكن القول فيما يخصّ الإختلاف بين مسرحيات أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية التي كانت تعيش تحت سلطة الأنظمة الديكتاتورية. إن المسرحيات الغربية تعاملت مع مأزق الفرد أو مجموعة الأفراد في موقف مجرّد من الإجتماعيات والحياة اليومية، ومنوطاً فقط بالأفكار المجردة والمطلقة، التي ليس لها إجابة محدّدة.

من عرض «آرا آرا»، للراقصين «جينفيرا بانزيتي» و«أنريكو تيكوني». تصوير : Ettore Spezza

في حين أن العبث في أوروبا الشرقية، حلل وبدقة، في يوميات الفرد داخل النظام الإجتماعي والسياسي. كذلك، إن السياق الإجتماعي للعبث في الشطر الغربي بدا خافتاً، أقرب إلى التنظير، أمّا في الشطر الشرقي كان ملموسا، واضحاً، وواقعياً.

عند التفكير المعمّق، سيدرك المتلقي أنه لا يوجد فرق جوهري بالرسائل والقضايا التي يتبناها كلّ من العبث في أوروبا الشرقية والغربية. فكلاهما يتحدّث عن عبثية الحياة والظروف المأساوية للإنسان. إلاّ أن العبث في الشطر الشرقي قد يكون أقرب إلى العبث السياسي، أمّا العبث في أوروبا الغربية هو العبث المأساوي، الذي يغوص بجدلية العلاقة بين الإنسان، الكون والذات.

مع نهاية فترة الستينات، انقلبت الأوضاع السياسية والإجتماعية في أوروبا الشرقية نحو الأسوأ. فبعد غزو تشيكوسلوفاكيا عام 1968، أصبح من الواضح أن روسيا لن تقبل بتحرر كامل في الشطر الشرقي من القارة الأوروبية. فقد غرقت تشيكوسلوفاكيا، الدولة الأكثر تمرداً في قوالب سياسية قمعية شبيهة بعهد ستالين. مما أدى إلى دخولها في جمود فكري وفني حادّ، ما زالت أصدائه متبقية حتى اليوم، عكس أوروبا الغربية التي استطاعت التحديث والتجديد، في معنى الوجود الإنساني، والإنتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.


المصادر والمراجع المعتمدة في هذه الدراسة:

  1. يوسف أحمد، مفهوم الباتافيزيقيا وأدب المونودراما: محاولة تأصيل، مجلدة الدراسات العربية،2017.
  2. Morazzini Michela, The Absurd in Central Europe: case of Poland, Jagellonian University, 2015.
  3. The Theatre of the Absurd, the West and the East I, Theatre & Art, 2014.

ندى جوني

كاتبة محتوى إلكتروني، أعمل في مجال البحث العلمي، أحضر حالياً لنيّل شهادة الماجستير في المسرح من الجامعة اليسوعية في لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى