مسرح

مفهوم المسرحة: دراسة للباحثة والدكتورة ماري إلياس.

منذ ظهوره في القرن العشرين، تعدى مفهوم المسرحة دوره لتغيير النظرة إلى كل ما هو «مسرحي»، وصار مرتبطاً، بكل ما ينتمي إلى عالم العرض، ليشمل مجالات أخرى منها الحياة الاجتماعية واليومية حتى. طوّر مفهوم المسرحة، النظرة إلى عالم العرض، الذي بات يتسع بدوره ليشمل كل الفنون. كذلك طور المفهومُ البحثَ في التداخل بين: فكرة العرض أو الإستعراض، وبين الحياة بمفهومها الاجتماعي. ليس مبالغة القول بأن مفهوم المسرحة لا يزال حتى يومنا هذا، مفهوما إشكالياً. لأنه بحسب البعض، يمكن أن يستبدل بمفاهيم أخرى كـ: مفهوم الإخراج، أو الإستعراض، أو العرض. فالفرنسي باتريس بافيس وغيره، يرون في المسرحة، تمثيلاً لحقبة زمنية، تميزت بالتأكيد على خصوصية المسرح، ثم تجاوزت هذا الهدف، حتى صرنا اليوم نتكلم عن «إخراج على الخشبة» أكثر من مسرحة. في هذا البحث تطرح الدكتورة والباحثة ماري إلياس، دور ومفهوم المسرحة، في تغيير النظرة إلى المسرح.

توطئة:

تطرح هذه الدراسة، دور ومفهوم المسرحة، في تغيير النظرة إلى الفن بشكل عام، ليتعدى مجال المسرح، ويشمل مجالات أخرى. خاصةً أن ظهوره ترافق مع ظهور وتطور مفاهيم ومصطلحات جديدة، دخلت القاموس المسرحي، مثل مفهوم: السينوغرافيا، أو البرفورمانس، أو فنون الحد الأدنى وغيرها.

كما تؤكد ماري إلياس، أن مفهوم المسرحة لم يكن العنصر الوحيد والمؤثر، الذي أدى إلى تحولات في مجالات فنون العرض، والفنون التشكيلية، والغناء. وإنما ترى أن ظهور المفهوم، هو دلالة لتفاعل ظروف عديدة، أدت إلى تغييرات جوهرية في هذه المجالات، إذ تعبر عن تطور عام في هذه المجالات.

وعليه، لا بد من الإشارة إلى أن ظهور هذه المفاهيم، هو سمة من سمات العصر الحديث (مسرحة نشرة الأخبار، أو أي شيء أخر في وسائل الاتصال)، جاء تعبيراً عن إلتقاء الفنون الزمنية، بالفنون المكانية (الأغنية والفيديو كليب). وملمحاً هاماً من ملامح الحداثة وما بعدها.

يقول باتريس بافيس في قاموسه المسرحي، إن هذا المفهوم الجديد «عصي عن التعريف. لا يمكننا إعطاؤه تعريفاً واحداً». بهذا المعنى، يبدو مفهوماَ إجرائياَ ذا فعالية، حيث تكمن أهميته على المستوى النظري. تعتبر الباحثة أنه هذا المفهوم، هو مفتاحي وفعال في مجالات فنية متعددة: البحث السوسيولوجي والأنتروبولوجي (عندما نتكلم عن مسرحة الحياة اليومية وعن تلفزيون الواقع)، وعلم النفس أو التحليل النفسي (مسرحة الهواجس ومسرحة الحلم).

 

المسرحة مرتبطة بما هو مشهدي، ولا علاقة لها بالنص، لكن بذورها موجودة في الكتابة.

يتعدى سياق النقاش، في الدراسة التي أعدتها الباحثة ماري إلياس، مفهوم المسرحة. فتحاول معرفة مدى تأثر الفن بشكل عام، بالتحولات التي طرأت على المسرح في العالم. لتسأل: هل كان هناك تساوق في هذا التأثر في كل المجالات، والبلدان أو الحضارات؟. أي، هل تطورُ مجال الفنون، يكون حصراً في مناطق بلدان محددة، أم أنه قد يصبح ظاهرة عالمية؟. خاصةً أن ظهور وتطور مفهوم المسرحة، ترافق مع ظهور تيار «الحداثة»، وما سمي بـ ما «ما بعد الحداثة». يدفع ذلك للتساؤل، عن مدى تفاعل الفن في المنطقة العربية، مع تيارات حداثية. وهل كان هناك تساوق في التحديث في كل المجالات؟ وهل أنها مست حياتنا وفكرنا بطريقة سليمة وصحية؟.

انطلاقاً من إشكالية المصطلح، يُطرح سؤالٌ بسيطٌ: هل المسرحة نابعة من المسرح، أم أنها تشكل قاعدة أوسع منه؟ ومن يسبق الآخر المسرح أم المسرحة؟. إنَّ محاولة الرد على هذا السؤال، تلخص كل الحكاية. لكن، من المؤكد أنَّ النواة الصلبة التي يرتكز عليها تعبير «المسرحة» هو المسرح. فالإشتقاق اللغوي واضحٌ في كل اللغات. لقد تجاوز مفهوم المسرحة، ما يتعلق بالمسرح فقط. إنه يرجع إلى شيء أعمق، وأكثر بدائية من المسرح، إنه يتعلق بشكل إدراكنا للعالم. مما سمح باستخدامات متعددة للمفهوم، في مجالات عديدة.

تعريف مفهوم المسرحة:

بحسب دراسة كلود إميه، التي نُشرت في عدد من «مجلة تيياتر»، الصادرة عن جامعة باريس الثامنة،  دار نشر لاماتان، (1998). فإن ظهور المفهوم، جاء كردة فعل على استغراق المسرح الغربي في الأدب. وكأنه كان تجاوباً مع صرخة المسرحي النمساوي أرتور، لإنقاذ المسرح الغربي من الأدب.

المعاجم الفرنسية  مثلاً (روبير ثم لا روس) تعرف المصطلح بالتالي «موائمة أو ملائمة عمل درامي أو موسيقي أو غيره… مع المتطلبات الأساسية للبناء المسرحي» ثم يميّز قاموس لاروس بإعطاء تعريفين:

«الأول يتعلق بالبحث عن الخصوصية المسرحية- ملائمة عمل درامي فني أو موسيقي مع متطلبات المسرح في جوهره».

والتعريف الثاني يفصل بين النص المسرحي والعرض على الخشبة: «صفات مسرحية تعود فعاليتها لمقومات خاصة مشهدية، أكثر من الطابع الأدبي للنص». هذا يعني أن التعريفات تدعم الفكرة التي تفصل بين كون المسرح نصاً «أدبياً»، وبين كونه عرضاً يقدم أمام جمهور.

نيكولاي إفرينوف (Evreinov) وغريزة المسرحة:

عام (1980)، استخدم نيكولاي إفرينوف، تعبير المسرحة في إحدى دراساته، معتبراً أن غريزة المسرحة، هي طبيعية عند الإنسان، مثل الغرائز الأخرى. وأن هذه الغريزة تسبق أي رغبة أو محاولة جمالية أو فنية -وهو هنا يلتقي مع الدراسات الفرويدية. وفي عام (1917) نشر بحثاً بعنوان: «المسرح لأجل ذاته»، يربط فيها بين الطقوس الدينية، وبين المسرح. ودرس حاجة الإنسان إلى تلك المسرحة. وهذا يعني أن هناك منذ البداية، بعدين في استخدام المفهوم: الأول إنساني، والثاني مسرحي.

من ناحية أخرى، كان هناك موقف المسرحي الروسي فيسفولد مييرخولد، الذي استخدم التعبير ذاته، لكن بمعنى آخر في نفس المرحلة تقريباً.

فقد تكلم عن إبراز أو إعلان المسرحة، عندما تكلم عن «العرف الواعي» أو «المسرح الممسرح» مما مهد الطريق لنظرية المسرحي الألماني بريخت في التغريب.

 هنا لا بد من طرح الملاحظات التالية:

– إن ظهور المفهومين في تلك الفترة الزمنية، هو مؤشر هام من الناحية التاريخية والفلسفية، عن تغيير معين في براديغما / مستويات وانواع /الفن بشكل عام، وقد برز هذا التغيير مع ظهور الحداثة، وجاء هذا التحول بعد ظهور مفهوم الإستيتيكا (علم الجمال) عند هيغيل، الذي يعتبر المحطة الأولى لسلسلة من الدراسات التي بدأت تطرح خصوصية الفن، أي علاقة الفن بالفن، وعلاقة الفنون ببعضها البعض.

«المسرحة تتحدد بثلاثة عناصر: إنها حضور، وتوجه للجمهور، وهي عرض لما هو غائب -أي استحضار».

ميشيل كورفان

– في مرحلة الحداثة، ومع ظهور الفن الحديث والطليعي، كان لا بد من ابتكار أدوات مفهومية جديدة، تجيب على أسئلة تطرحها الأشكال الفنية الجديدة، وقد وظفت هذه المفاهيم لتوصيف وتحديد خصائص الفن الحديث، ومن ثم لتمييز كل فن على حده. ونذكر مثلاً ظهور مفهوم خصوصية المسرح ومصطلح العلاقة المسرحية في منتصف القرن الماضي.

انتشار المصطلح:

في أوروبا الغربية، رولان بارت، يُعتبر أول من استخدم المصطلح في دراسته حول مسرح بودلير في عام  (1954)، وقد أعطاه معنيين: الأول، يتعلق بالممثل وتجسيده للدور. فهو عندما يجسد الدور، يتحول إلى شخص آخر، فهو يمسرح. والمعنى الثاني، يتعلق بالعناصر التي تؤدي إلى المشهدية في المسرح، فهو عندما يسأل ما المسرحة؟ إنها المسرح بدون النص (الأحاسيس، الحركة، النبرة، الصوت، الإضاءة وإلى ما هنالك). ولكنه يضيف بعد ذلك أنَّ نواة المسرحة، في أي عمل مسرحي مهما كانت طبيعته لا بد أن تكون موجودة منذ اللحظة الأولى للكتابة. وهذا هو أساس فصل الأدبي عن المسرحي (يذكرنا هذا الطرح من جديد بآرتور).

البلجيكي جان ماري بييم، في تعريفه  للمسرحة (الجزء الأول من التعريف في قاموس المسرح الذي أشرف عليه وكتب بعض فقراته الأستاذ والباحث ميشيل كورفان)، يرفض الكلام عن المسرحة خارج إطار العرض المسرحي، ويرى أنه مفهوم مرتبط بالمسرح حصراً، ولا يمكن إيجاده في الفنون الأخرى.

هذا ما يؤكد عليه ميشيل كورفان في تعريفة للمسرحة، في المصدر ذاته، عندما يتكلم عن حضور وغياب من خلال جسد الممثل: «المسرحة تتحدد بثلاثة عناصر: إنها حضور، وتوجه للجمهور، وهي عرض لما هو غائب -أي استحضار».

كذلك الأمر بالنسبة لميشيل برنارد، في دراسته عن لغة تعبير الممثل وخاصة صوته، و يحدد المسرحة بتلك العلاقة بين الكلام والجسد: «في هذا التداخل بين الجسد كلغة واللغة الصوتية».

بالنتيجة، نرى أن كل من حاول البحث في موضوع المسرحة وتعريفها، وصل إلى نتيجة مفادها أن المسرحة مرتبطة بما هو مشهدي، ولا علاقة لها بالنص، لكن بذورها موجودة في الكتابة. انطلاقاً من هذه الفكرة سيحاول العديد من الباحثين أو القراء العاديين، تحديد المسرحة في نصوص لها طابع سردي، أو حتى في فنون لا تتعامل مع المشهد بشكل مباشر.

لا بد من الإشارة، أن مرحلة طويلة من تاريخ مسرح القرن العشرين، تميّزت بالبحث عن الخصوصية المسرحية، أو المسرحة في النص والعرض على حد سواء. وتحددت هذه الخصوصية، بالعناصر المادية التي توجد في العرض: مكان، وأجساد، وأغراض، وحركة، وصوت، أو أصوات. وفي النص، بالعناصر التي تكسر الإيهام، وتخاطب المتفرج بشكل مباشر. أي العناصر التي تؤكد على المسرحة وتغلب التأثير الفكري، أكثر من التأثير الانفعالي. وقد أدى هذا البحث إلى تحول في رؤية دور المسرح وشكل تعبيره عن العالم.

أصول المسرحة في المسرح: فلسفة الفكرة

فلنعد إلى البدايات. قبل ظهورالمسرح، كان قائد الجوقة الدينية في بلاد الإغريق، يلمُّ الناس من حوله، ليرددوا أثناء تأديتهم الطقوس العبادية، نصوصاً من الأساطير الإغريقية. في ذلك الوقت، كان الناس يتماهون مع هذه النصوص، ويدخلون في أداء تمثيلي غير مقصود، نابع من إيمانهم بآلهتهم.

تستحضر الباحثة والدكتورة ماري إلياس هذه الصورة لتقول، بأنَّ الطقس عند اليونانيين لم يكن إعادة إحياء، أو إعادة تمثيل، وإنما كان الحقيقة بحد ذاتها. وتضيف: «لم يكن هناك مسافة نقدية بين الشيئ وتمظهره. بل، كان هناك وحدة بين الغرض وعلاماته».

لكن، مع ظهور الفلسلفة «التي تعني: التأمل، والوضوح، وإعادة التفكير وفق منطلقات معينة». كان لا بد من وضع مسافة بين «الشيئ» و« الفكرة». ماذا يعني ذلك؟ يعني إلغاء الوحدة بين الغرض وعلاماته. أي، عكس ما كان يقوم به قائد الجوقة الدينية في بلاد اللإغريق، حيث لم يكن هناك علاقات ثنائية: (داخل/ خارج. دال/ مدلول. فاعل/ غرض). لذلك لم يكن هناك تعارض بين عالم الفعل، وعالم الفكر.

 بالنسبة لهذا المفهوم اليوناني الأولي، كان النمط السائد يحتم الفكرة التالية: «أنا أعرف بمقدار ما أرى». على أساس أن العين تحمل أو تبث ضوءاً، وهذا ما يسمح لنا برؤية ما يقع في إطار رؤيتنا فقط. إنَّ الإنسان، لم يكن يصدق إلا ما يراه. لهذا، ارتبطت المعرفة، بإشكالية النظرة، أو الرؤية منذ البداية.

ظلت خشبة المسرح، مكاناً يُمثل أو يُستحضر من خلالها بشكل رمزي، مكان آخر غائب. وظلت الألولوية للشعر الدرامي، الذي اعتبر أفضل من الفلسفة. وليس بعيداً عن عصرنا هذا، بقي النص في المسرح الغربي الأساس. حيث كان هاجس المسرح الغربي، استحضار الأشياء على أنها الحقيقة، وكأنه يقول: «ما ترونه على الخشبة هو الحقيقة بحد ذاتها، وليس مسرحاً».

إن خشبة المسرح هي مكان له وجود مادي حقيقي فارغ مرئي يمثل أو يستحضر بشكل رمزي، مكاناً آخر غائباً. من هذا التعريف نستخلص التالي: من غير المهم، تحديد ما إذا كانت هذه الفكرة، هي نتيجة لوجود المسرح، أم أن المسرح انبثق عنها. المهم، أن المسرح هو المكان الأمثل الذي نرى فيه الشيء غير الموجود الآن (أو نستحضره)، وهذا الشيء الغائب- الموجود من خلال المسرح، يؤثر فينا ويضاف إلى تجربتنا الحياتية.

بالتالي، فإن فكرة المسرحة غير مرتبطة جوهرياً، وإنما تقنياً، بتحويل: شيء، أو فكرة، أو حادثة، إلى مسرح. وإنما مرتبطة بشكل إدراكنا لهذا الشيء. وهي مرتبطة بشكل وثيق، بنظرتنا إلى الأمور، وبشكل إدراكنا للعالم (فنحن نرى في الحلم مشهداً). بالتالي، يمكن لتعبير المسرحة أن يتجاوز ما هو مرتبط بشكل مباشر  بالمسرح.  لذا فإننا نعتبر ظهور المسرحة في المسرح، كان كرد فعل على قواعد وفلسفة المسرح الغربي والفنون (المحاكاة والإيهام والتمثل).

إذاً مفهوم المسرحة كما يرد منذ البداية يرتكز على أربع خصائص:

– الشخصيات: لا تكون المحاكاة بالسرد، وإنما بالفعل.

– هدف العرض: محاكاة الأشياء والأشخاص وهي تحاكي أو تقلد الواقع: انتظام التراجيديا في عرض يعتمد على التشكيل الحركي. وبما أن غاية التراجيديا هي التطهير، فالتطهير يتم عبر وجود المشهد والفضاء الثلاثي الأبعاد لأنه يجسد الحكاية.

-الشمولية الفنية: حيث تُلقى على الخشبة أنواع متعددة الفنون، مثل الديكور والجوقة التي تحمل الغناء والإيقاع والموسيقى.

-علاقة المواجهة :la frontalite العلاقة المباشرة بين العرض والمتفرج، وهي علاقة مواجهة بالعين، بين ما يُرى ومن يرى.

 إن تاريخ المسرح الغربي يتميز بهذا الصراع بين حرفية وجود الأشياء على الخشبة وبين محاكاتها لشيء حقيقي في الحياة. ويمكننا إضافة أن هذا المسرح يقع في تناقض هام، لأن هاجس المسرح الغربي كان دائماً استحضار الأشياء على أنها هي الحقيقة الموضوعية، وكأنه يقول هذه هي الحقيقة على المسرح، ضمن مهمة  الإيهام التي وضعها لنفسه. وبالتالي، فإن هذا المسرح، عبر تاريخه أعطى المكانة الأولى  للشعر الدرامي ورأى فيه جوهر المحاكاة، واعتبره أفضل من الفلسفة. وقد احتل الشعر المرتبة الأولى في سلم الفنون، لأنه فن انعكاسي مرتبط بالمعرفة والفكر والحساسية أيضاً.

تحول في مفهوم المسرحة دخل مع الحداثة. وقلب رأساً على عقب أسبقية وأفضلية النص على العرض، أول من طرح الأمر هو فاغنر، عندما أعطى الدور الأول للتراجيديا كما تبدو على الخشبة، وطالب بأن تعود للتراجيديا حياتها أو أن تعيش على الخشبة.

ميرخولد دعا إلى العودة إلى مفهوم اللعب في المسرح، مقابل حرفية المحاكاة التي جردت المسرح من المسرحة. واعتبر أن إظهار عرض الحياة على الخشبة هو إعادة لعب الحياة وليس تقليدها. (البيوميكانيك – عودة إلى المسرح الجوال ومسرح السوق).

تطور دور المسرحة  في الفنون:

استكمالاً لهذا، حصلت في النصف الثاني من القرن العشرين تبدلات كثيرة في مفهوم الفن، وظهرت في ستينيات القرن الماضي، مفاهيم جديد كالـ «Performance»، «Art Minimalists»، « Performing Art ». كل هذه الفنون لا تسعى إلى تصوير الواقع كما هو، ليكون حدثا بحد ذاته.

 كلمة «Performance» بالفرنسية، تعني الإنجاز، انتقلت إلى اللغة الإنكليزية كما هي، وصارت تستخدم في مجال المسرح للدلالة على العرض مقابل النص الدرامي.

أما تعبير «Performing Art»، الفنون الأدائية، فهو حديث نسبياً، أطلق منذ الستينات على نوع من العروض الأدائية، وذلك لأن ملامح كل عرض تتحدد من خلال أسلوب استخدامه لأدواته أو مكوناته (الجسد أو الغرض). وكذلك من خلال وضع هذه المكونات في فضاء العرض.

تعتبر هذه العروض فنون تواصلية من الطراز الأول، لأنها تقوم على وجود حدث آني  Event بين العرض ومتلقيه، ويتحدد بزمن وجود المتفرج في فضاء العرض، وتسيطر فيه الصورة السمعية البصرية على العنصر الكلامي، وفي حال استخدم الكلام، فيكون عنصراً أو مؤثراً صوتياً سمعياً أكثر من كونه أداة تواصل.

أما ما يميز فنون الحد الأدنى، «Art Minimalists»، ويجعلها قريبة من فكرة المسرحة، هو أن هذا التيار تخلّص أو تهرب من التقاليد السائدة في الفنون، على الأخص في الرسم، ومن مفهوم اللوحة التي تعتمد مبدأ المواجهة والكلية «Frontalite and flatness»، مقابل حلول أخرى أكثر تحديداً وخصوصية. وفي النحت، تخلصت من مبادئ وجود القاعدة والإرتفاع والدينامية الفضائية الخاصة. إن تيار الحد الأدنى يعيد النظر بالمبدأ الذي طبع هذه الفنون، وهو مبدأ استحضار الأشياء المصورة أو المجسدة. ويطرح تساؤلاً حول العلاقة التي تميز المسرح والوجود في الزمان والمكان، ومن هنا فهو يعدل في الوظيفة الفنية للفن. يعدل في  أساس تصميم العمل الفني وعرضه. العمل الفني لا يجسد ما هو غائب، هو مصمم لأجل ذاته، ولا يحاول تصوير الواقع أو الحقيقة وعرضه، هو حدث بحد ذاته. وهذا المبدأ الجديد ينسحب على كل الفنون وخاصة تلك التي لا تستخدم اللغة الكلامية كمادة أولية لها.

بات العمل الفني عملاً تركيبياً قائماً على تركيب الأشياء أو الأغراض ووضعها في فضاء العرض، الذي قد يكون صالة عرض، أو مصنع قديم… قام الفن الممسرح، على إلغاء المسافة التي كان المتفرج يعيشها بين العالم الفني والعالم الواقعي، وصار المتفرج المتلقي، جزءاً من هذه التركيبة الفانتازية. وباتت تختلف عن الأعمال الفنية الحداثية، التي تعطي معلومة من خلال وجودها وترتيبها على الشكل الذي تكون موجودة فيه، وقد نقول أنها تقدم قراءة ما عن هذا الواقع.

إقرأ أيضا على المدوّنة: الدراماتورجيا ماذا تعرف عنها؟

خاتمة البحث:

إن البحث في مفهوم المسرحة بحث طويل، وقد يفيد اليوم أكثر إذا امتد ليطال المسرحة، فيما هو مختلف عن النماذج التي نتلكم عنها هنا، أي المسرح بشكله الغربي وفنون العرض برمتها. لنأخذ مثلاً النصوص السردية الروائية منها وتلك التي تسمى مسرحاً (المونودراما) أو في فنون أخرى، وكلها تحمل مسرحة بشكل ما، إما على النص من خلال وسائل عديدة أهمها المخاطبة، والمشهد، ووجود المستويات الزمنية، والسردية التي قد تنتمي إلى عالم العرض بشكل خاص جداً.

تختم الباحثة والدكتورة ماري إلياس دراستها بالقول إن هناك مجالات قد لا يخطر ببالنا النظر إليها من منظور مسرحي، كمجال الأغنية أو الفنون الأخرى التي تتطور الآن بفعل وجود الكليب. وقد تحمل الأغنية كنص أيضا، مسرحة معينة، من داخل لغتها وبنيتها، وهذا ما يجعلها تؤثر في متلقيها بشكل أعمق، يشبه تأثير التغريب في المسرح.

تذكر ماري إلياس  على سبيل المثال: أغاني زياد الرحباني وموسيقاه، مقارنة بموسيقى وأغنيات الرحباني- الجيل الأول. إذ  تؤدي أغاني زياد، بسبب ما تحمله من تغريب بين الكلمة والموسيقى، وبين ما هو متوقع، وما هو مقدم للسمع، إلى مسرحة عالية، تكون بمثابة تغريب، يخاطب العقل أكثر من الحواس. أما أغنية الرحابنة (الأب)، من حيث الكلام والموضوع والموسيقى وشكل الإلقاء، تنقل المتلقي إلى عالم أو فضاء آخر، بعيد نسبياً عن الواقع يكون بمثابة عالم سحري مغاير. أغنية زيادة أكثر التصاقاً بالواقع وفيها مسرحة أو كسر مقصود وواع. وهي تعيد المتلقي إلى أرض الواقع بكل مشاكله. وهذا واضح خاصة على المستوى اللغوي، أي مستوى انتقاء الكلمات واللعب على الكلام عند زياد.

في النهاية، لنقل إنَّ استخدام المفهوم في مجالات أخرى غير المسرح، يبقى بمثابة استعارة من المسرح- أي الفن المشهدي، للتطبيق على فن آخر لا يتسم بالضرورة، على الأقل للوهلة الأولى، بالسمات المسرحية، أي وجود المكان والمشهد) لكنه يبقى فعالاً ويسمح بسبر أعماق تأثير هذا الفن وفعاليته.

تعرّف على ماري إلياس

باحثة، وأكاديمية، وأستاذة محاضرة في جامعة القديّس يوسف في لبنان، والمعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق. حاصلة على الدكتوراه في المسرح من فرنسا. تُعد أحد أكثر الباحثين عراقةً في مجال المسرح في العالم العربي. من أهم مؤلفاتها: «المعجم المسرحي مفاهيم ومصطلحات، المسرح وفنون العرض»،  «أنطولوجيا المسرح الفرنسي الحديث»، «تمارين في الكتابة الدراماتورجية والارتجال». قامت إلياس بترجمة عدد كبير من المؤلفات المسرحية أيضاً.  

خليل الحاج علي

صحافي متخصص في الشأن الثقافي، حاصل على دراسات عليا في المسرح والفنون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى