مسرح

 2048 – تحلل هوية، لعلاء ميناوي: غياب الجسد وحضور الهوية

في الآونة الأخيرة، في مدينة بيروت، بدأت حركة المشهد المسرحي بالعودة  لكثافتها وغزارتها، من عروض ومهرجانات لفنانين/ات محترفين وهواة، وعروض طلابية وبديلة، لدرجة أننا نستطيع بشكل شبه يومي، حضور عرض جديد، تتنوع فضاءاته بين المسارح الكبرى، والمتوسطة، والمساحات البديلة. كذلك، تتعدد أشكال سلسلة العروضات، بين عروض جديدة، أو من ريبرتوار المسرحيين القدامى. ضمن هذه الغزارة، وتعدد أشكال الفرجة، برز عرض أدائي تحت اسم  «2084 – تحلل هوية» للمخرج اللبناني الفلسطيني، علاء منياوي- قُدم في بيروت، في شباط/ فبراير، الماضي. يقوم العرض الأدائي، 2084 – تحلل هوية، عن طريق تطبيق «الواتساب»، ولكنه يحمل الصفة الوجاهية. أي، يستلزم حضور الجمهور، وتنقلهم بين عدة أزقة، لغاية وصولهم لمنزل في منطقة «الأشرفية – رميل»، في بيروت.

2048 – تحلل هوية: تجربة حسيّة وتفاعلية

تجربة حسيّة انغماسية، قائمة على مجاورة الحضور، لجميع خطوات العرض، من خلال هواتفهم وتواجدهم في الأزقة والفضاءات والغرف، التي يتم السرد عنها خلال مدة العرض. تبدأ التجربة مع بداية اليوم، بحيث تتم إضافة أرقام الأفراد المسجلين، لحضور العرض في تاريخ محدد، لمجموعة تواصل على تطبيق «الواتساب»، ويبدأ علاء الترحيب بالمنضمين وشرح آلية سير العرض، والمكان الذي من المفترض أن يتجمع فيه الأشخاص، لحضور العرض في الساعة المحددة. ومن المهم الإشارة بأن العرض المحدد وفق الإعلان، يبدأ بساعة محددة وهي 60 دقيقة، من التواجد المادي للمتلقين، ولكن التجربة تبدأ منذ بداية يوم تاريخ العرض، ومن لحظة انضمام الحاضرين للمجموعة.

بعد الترحيب بالمنضمين، يبدأ علاء ميناوي، بتوصيف مكان اللقاء ومحيطه بشكل حسي صوري، مع ذكر لمحة تاريخية عن المكان، وكيف تحوّل مع الأيام، وصولاً لوقتنا هذا. يأتي موعد اللقاء، الحضور في حديقة عامة، شيّدت بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب- أغسطس. تبدأ نظرات الاستغراب بين الحاضرين، في حديقة، لا شيء معداً أو مجهزاً فيها، لأيّ عرض. يُقطع الانتظار عبر رسالة على مجموعة التواصل من علاء، يعلن فيها بداية العرض. ويتأكد من حضور الجميع، ومن ثم يقوم بالاعتذار عن غياب حضوره الجسدي، أو حضور جسد آخر ضمن العرض، ويقوم بشرح مفهوم العرض بأنه قائم على تجربة الحضور، وتنقله، وبأنه سيرافقنا/ فقط، عبر «الواتساب».

من عرض 2048 – تحلل هوية، للمخرج اللبناني الفلسطيني علاء ميناوي

يبدأ علاء بإرسال موقع لمكان ثانٍ، والذي ستحدث فيه بقية أجزاء العرض، وتتوالى طلبات علاء الصوتية أو المكتوبة لترافق خطوات الحضور، عبر مسيرهم للوصول للمنزل. تستمر مشاعر الاستغراب والنظرات الحرجة بين المتلقين، ما بين متابعتهم للرسائل على «الواتساب»، ومحاولة السيّر بطريق واضح، بين الأزقة، للوصول إلى لمكان المقصود.

يصل الحضور للمنزل الموصوف. ليجدوا المفتاح أسفل سجادة الباب الرئيسي، يقوموا بفتح الباب والدخول إلى منزل مليء بالأثاث، فارغ من القاطنين. منزل فارغ، ولكن تبدو على ملامحه وتفاصيله حميمية العائلة بالرغم من غياب حضورها الفعلي، يطلب علاء عبر الواتساب من الحضور بوضع أي بطاقة تعريفية عنهم (هويّة، جواز سفر، إقامة، بطاقة طلابية، شهادة قيادة، أو أيّ ورقة عليها اسمهم)، في وعاء، يتوسط مدخل المنزل الأشبه بممر مفتوح على كلّ الغرف المغلقة- المكان الحيادي ضمن المنازل، ويطلب علاء استبدال ما تركه المتلقين ببطاقة مرقمة. 

يتردد الحضور للحظات قبل تنفيذ الطلب، ولكن ما إن يقوم أحدهم بفعلها بتبعه البقية، كأنّ اتفاقاً قد حدث بدون أيّ تواصل، بأننا نقبل بشروط هذه التجربة بتوجس، ولكننا منتظرين التتمة لنرى إلى أين ستؤدي هذه الطلبات.

تبدأ عملية المكاشفة بعد دخول الحضور لغرفة الجلوس. ويبدأ علاء بإرسال رسائل مكتوبة عبر المجموعة، ويتحدث فيها عن الهوية ويكشف للحضور عن جنسيته وانتمائه ومعضلة الحياة ما بين أب وأم من جنسيات مختلفة خصوصا في لبنان. «بس بحب خبركم إنيّ لبناني… أيه لبناني» يصرّح علاء ويسترسل بالحديث عن عدم امتلاكه الهويّة اللبنانية بسبب جنسية والده الفلسطينيّة، والتي لا تعطيه هويّة هي الثانية ولكن تمنحه فقط «وثيقة لاجئ»، مع رقم لإثبات وجوده رسمياً.

موضوعة العرض ونصه، قائمة على إعطاء الأولوية والأهمية لسردية الحاضرين، عبر طرح سؤال الهوية والانتماء.

أنس يونس

يستمر العرض بنفس الأسلوب القائم على رسائل صوتيّة ومكتوبة من علاء، وتستمر الطلبات التي تكاد تكون غريبة لأشخاص لا يعرفون بعضهم ولكن في صميمها تقوم ببناء قالب العرض وتكوين جوهره القائم على التواصل الفعال، والاستماع، والاكتشاف، والانغماس، بجميع الحواس. ليصل لمرحلة الجلوس سويّةً وتبادل أطراف الحديث، والتعليقات، والضحكات، وشرب الشاي، الذي يقوم الحضور بتجهيزه وتناول العشاء المعدّ مسبقًا في غرفة الطعام، والتنقل في جميع غرف المنزل. 

ينتهي العرض عبر تجربة سمعيّة في غرفتين منفصلتين يتم من خلالها تشغيل مجموعة من التسجيلات الصوتية، تقوم بتوصيف الحاضرين. هذه التسجيلات نفسها كان قد قام بتسجيلها الحضور خلال العرض، بواسطة طلبات من علاء عبر «الواتساب»، تتنوع التسجيلات بين حسيّة تقوم على وصف الشخص المقابل لكل فرد، وتسجيلات ذاتية لها علاقة بالذاكرة والخوف وغيرها… لتدمج مع بعضها، ويتم إعادة تشغيلها بشكل متوازٍ ومتسلسل مع بعضها البعض، مما يترك المشاركين بحالة عاطفية، سمحت بتعميق التواصل بين المجموعة بعد تجمعهم لمجرد ساعة واحدة. ومن المحتمل أنهم لنّ يلتقو مرة أخرى في حياتهم إلا صدفة، يخرج الحضور باتجاه مدخل المنزل و يستعيدون بطاقاتهم التعريفية ويأخذون صورة جماعية على مرآة المدخل، ويمضون في سبيلهم مع الكثير من الأسئلة والاستفسارات، عن ذواتهم، وهوياتهم الشخصية، والمشاعر المتقدة، مابين غضب وحب وحنين.

تحلل هوية: كسر القوالب النمطية والأشكال الفنية السائدة

تعتبر هذه التجربة، مع التوكيد على كلمة «تجربة»، بسبب طبيعة العرض، القائمة على خلق واقع مؤقت، يحاكي إشكالية العرض ويقوم بدفع المشاهدين على اختبار مقولته بشكل فعلي، بداية من الدخول لمنزل غريب فارغ من أصحابه، والمكوث فيه لفترة زمنية بعد تجريدهم من بطاقاتهم التعريفية، واستبدالها ببطاقات مرقمة، لا جدوى منها ولا تعرّف بأصحابها وهويتهم الفعلية، وصولاّ لطلب مخرج العرض من الحضور بالخروج من المكان، بعد نهاية فترة العرض. تجربة مماثلة لجميع مراحل اللجوء، والنزوح، والتهجير القسري، التي عايشها جزء كبير من الشعب الفلسطيني والسوري واللبناني. 

انطلاقاً من هذه الإشكالية، تتم عملية التماهي والتماثل مع موضوعة العرض. خصوصاً، في زمن غدت فيها هويات وانتماءات قاطني هذه المنطقة الجغرافية، مبعثرة ومشتتة إلى حدّ الاختفاء كليّاً. من هنا يأتي خيار صانع العمل، بعدم تواجده، والتأكيد على مفهوم الغياب مثله مثل هويات الحاضرين، إضافة لهدفه بخلق بيئة تواصل مختلفة عن السائد، في معظم العروض المطروحة، اليوم، القائمة على مفهوم التواصل والتلقي الأحادي.

من العرض، شباط، فبراير، 2023

لا يمكننا تجاهل خلفية علاء الفنية وغناها البصري، وتطوّر ونضج ممارسته المسرحية، واختلاطها بكمّ كبير من التجارب العربية والغربية. فكانت نتيجة مثاقفته مع الممارسات المسرحية المعاصرة، تجربة مقتصدة بعيدة كل البعد عن كل عمليات الإبهار، تعتمد على أبسط أنواع التكنولوجيا التي يمتلكها الجميع بدون استثناء، ويستطيعون التعامل معها بدون أي تعقيد. حميمية عضوية قائمة على مفهوم «ماذا لو»، كان هذا التطبيق الذي نستخدمه بشكل يومي، هو وسيلة لحضور عرض أدائي يشبه يومياتنا بشكل مريب، ويتحدث عن مكنوناته المحظورة، في هذه المنطقة القائمة على قاعدة «من وين حضرتك».

موضوعة العرض ونصه، قائمة على إعطاء الأولوية والأهمية لسردية الحاضرين، عبر طرح سؤال الهوية والانتماء. تتساوى مع مجال قصة علاء من ناحية الوقت والأهمية والأولوية. بهذه الطريقة يؤرجحنا العرض ما بين الفردي الخاص، والجمعي العام، ضمن سينوغراف منزلي حميمي خالص، وعلى الهامش شاشة تلفاز تعرض مقاطع بث مسجلة من ثورة «17 تشرين»، عليها إشارة بث مباشر، لتطرح سؤال وسائل التغيير، وهل هذه المقاطع مباشرة فعليّاً، أو هي علامة من علامات العرض التي تبدل دلالة الماضي القريب، بمدلولها الحاضر اليوم، عن الآن وهنا وحتمية التغيير.

على الصعيد الجمالي يساءل هذا الشكل من العروض، مفهوم الممارسات الفنية المعاصرة وما وصلت إليه من شكل اليوم. هل نحتاج إلى زخم وكثافة التقنيات المتطورة لخلق عرض «برفورمانس»؟ أم يكفي وجود وثيقة غائبة، وسؤال مشروع، وطريقة تلقي تحترم المشاهد وتجعله جزءاً من العملية؟ وتمنحه ملكيتها بشكل كامل.

تعتبر هذه التجربة استمراراً لتجارب ممارسين مسرحيين معاصرين، مثل ربيع مروة وغيره من رواد التغيير، على صعيد الشكل والمضمون، التي تعزز أهمية التجديد، الذي عمل عليها الجيل الصاعد عبر محاولته  لكسر القوالب النمطية والأشكال الفنية السائدة، وذلك عبر طرح تعريف جديد لوظيفة المسرح وعن أهمية عودته للمجتمع. بالإضافة لجوهر تفكيك الظواهر المجتمعية وتحليلها والحرص على رواية سرديات مختلفة، تعزز حريات التعبير وفق جرعات مخففة يستطيع المجتمع من خلالها تقبل وجود الآخر بداية من المسرح، ونهاية في المجتمع.

أنس يونس

أنس يونس ممارس مسرحي وفاعل ثقافي. يعمل مع مؤسسات وكيانات ثقافية عديدة، على مستوى الإدارة الفنية والثقافية. باحث أكاديمي متخصص في الإنتاج الفني والثقافي، لديه تجارب مسرحية عديدة، ضمن فضاءات ثقافية بديلة. خريج جامعة الفنون والتكنولوجيا في لبنان باختصاص الأدب والدراما. يحضر لنيّل .درجة الماجستير في الدراسات المسرحية، في الجامعة اليسوعية، في بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى